استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

التحرر من شرنقة التحديات الوهمية


حين يشعر أحدنا بأن التحديات المدلهمة قد كادت تخنقه، يتحول إلى شرنقة متشبهاً بالكائنات التي حين تشتد بيئتها تدخل شرنقتها حصناً من الاندثار. هذا السلوك قد يكون إيجابياً أحياناً، لكن المشكلة الحقيقية تكمن حين يعتاد الإنسان دخول شرنقته في حالة التحديات الوهمية.
الشرنقة بين الحماية والسجن
تمثل الشرنقة في عالم الفراشات وسيلة تحول وتغير، أما في حياة الإنسان فقد تتحول إلى سجن اختياري يحبس فيه نفسه بعيداً عن مواجهة الواقع. 
تذكرنا هذه الظاهرة بالكائنات وحيدة الخلية التي تُشكل غشاءً صلباً حول نفسها عندما تواجه ظروفاً بيئية قاسية. هذه العملية المعروفة بالتحوصل (Encystment) تمكّن هذه الكائنات من البقاء على قيد الحياة لسنوات طويلة في ظروف لا تطاق. لكن الفرق الجوهري أن هذه الكائنات تلجأ إلى التحوصل فقط في مواجهة تهديدات حقيقية لبقائها، بينما نحن البشر نميل إلى التحوصل النفسي حتى أمام تحديات متخيلة أو مبالغ في تقديرها. حين تكون التحديات حقيقية، يكون الانسحاب المؤقت للتقاط الأنفاس استراتيجية ضرورية للبقاء. لكن حين تتحول الاستراتيجية المؤقتة إلى نمط دائم، وحين تُستدعى لمواجهة تحديات وهمية، تصبح الشرنقة معوقاً للنمو بدلاً من أن تكون أداة لحمايته.
إن الشرنقة الوهمية بهذا المفهوم تمنع التجديد وتفوت على صاحبها ذلك "الاغتسال الثقافي" الذي تحدث عنه الرافعي رحمه الله. فالنمو الإنساني يتطلب الانكشاف والمواجهة، والاحتكاك بالأفكار المختلفة، والتعرض للتجارب المتنوعة.

أشكال الشرنقة الوهمية في حياتنا

 1. شرنقة التباس الأوضاع والحقائق
هناك حالة خاصة تستحق التأمل، وهي عندما تتلبس الأوضاع على الإنسان الطامح للتغيير نفسه. فيجد الحقائق مشوشة، والمسارات متداخلة، والأهداف غير واضحة، فيفر إلى شرنقته هرباً من هذا الالتباس.
في هذه الحالة، ليس الخوف وحده هو الدافع، بل غموض الصورة وتشوشها. الإنسان بطبعه يميل إلى الوضوح والتحديد، وعندما تغيب هذه العناصر، قد يفضل العودة إلى "المنطقة المعلومة" - شرنقته - بدلاً من المخاطرة في أرض مجهولة المعالم.
لكن المفارقة أن مواجهة هذا الالتباس - وليس الهروب منه - هي الطريق الوحيد لتوضيح الصورة. كأن الخروج من الشرنقة في هذه الحالة هو الحل وليس المشكلة.
2. شرنقة التعذر بفساد المجتمع
تأمل حالة من يتحدث عن ضرورة التجديد الثقافي، ثم يعود فيبرر عدم مبادرته بفساد المجتمع وضعف الإقبال. يقدم سيلاً من المبررات الخارجية ليتهرب من إجراء كشف حساب حقيقي مع نفسه. "وأن وأن وأن" تصبح لازمة تسبق كل عذر، وتشكل درعاً واقياً يمنع النقد البناء والتقييم الصادق.
هذا الشخص يهرب من مواجهة حقيقة قد تكون مؤلمة: أنه ربما لم يبذل الجهد الكافي، أو لم يطور أدواته بما يكفي، أو لم يتحمل نصيبه من المسؤولية في عملية التغيير.
3. شرنقة ضيق الوقت والمسؤوليات
"ليس لدي وقت للقراءة بسبب مسؤوليات البيت والأبناء" - جملة نسمعها كثيراً. لكن المفارقة أن نفس الشخص قد يجد وقتاً لساعات من تصفح وسائل التواصل الاجتماعي، أو متابعة المسلسلات، أو المجالس الاجتماعية المطولة.
المسألة ليست مسألة عدم وجود وقت، بل مسألة ترتيب أولويات. القراءة تحتاج إلى عزيمة وانضباط وتخطيط، وهذا ما يتهرب منه البعض بالتعذر بالظروف الخارجية.
4. شرنقة الخوف من الفشل
كثيراً ما نرى أشخاصاً يتجنبون خوض تجارب جديدة خوفاً من الفشل. يبنون جداراً من المبررات لماذا "الآن ليس الوقت المناسب" أو لماذا "الظروف غير مواتية". في الحقيقة، هم يحمون أنفسهم من مواجهة احتمال عدم النجاح، فيؤثرون البقاء في منطقة الأمان الوهمية.
 الأثر المدمر للشرنقة الوهمية

تكمن خطورة الشرنقة الوهمية في آثارها طويلة المدى على شخصية الإنسان:

1. ضمور القدرات : القدرات التي لا تُستخدم تضمر مع الزمن، فمن يتهرب من التحديات يفقد تدريجياً مهارة مواجهتها.
2. تضخم المخاوف : كلما تجنب الإنسان مواجهة مخاوفه، تضخمت في عينيه وازدادت هيمنة على تفكيره.
3. فقدان فرص النمو : التحديات، حتى الصغيرة منها، هي فرص للتعلم والنمو، والهروب منها يحرم الإنسان من هذه الفرص الثمينة.
4. تضاؤل الثقة بالنفس : مع كل مرة يتراجع فيها الإنسان عن مواجهة تحدٍ، تتضاءل ثقته بقدرته على المواجهة.
5. الركود الثقافي والفكري : من يختار البقاء في شرنقته يحرم نفسه من "الاغتسال الثقافي" الضروري لتجديد أفكاره ورؤاه.

كيف نتحرر من الشرنقة الوهمية؟

1. الوعي والاعتراف
الخطوة الأولى للخروج من الشرنقة هي الوعي بوجودها والاعتراف بها. علينا أن نسأل أنفسنا بصدق: هل أتهرب من المواجهة؟ هل أختلق أعذاراً لتبرير تقاعسي؟ هل أبالغ في تقدير حجم التحديات؟
2. فحص المبررات بموضوعية
كثير من المبررات التي نسوقها لأنفسنا لا تصمد أمام التحليل الموضوعي. حين نشعر بالتردد أمام تحد ما، علينا أن نفحص مبرراتنا بدقة ونسأل: هل هذه أسباب حقيقية أم مجرد أعذار؟
3.  البدء بخطوات صغيرة
التغلب على الخوف يبدأ بخطوات صغيرة. بدلاً من محاولة الخروج من الشرنقة بالكامل دفعة واحدة، يمكن البدء بتحديات محدودة تبني الثقة تدريجياً.
4. الاستثمار في بناء المهارات
كثير من مخاوفنا تنبع من شعورنا بنقص المهارات اللازمة للمواجهة. الاستثمار في تطوير الذات واكتساب المهارات يقلل من الحاجة إلى الانسحاب إلى الشرنقة.
5. تغيير النظرة للفشل
الفشل ليس نهاية المطاف، بل هو جزء من رحلة النجاح. تبني هذه النظرة يخفف من وطأة الخوف من المجازفة ويشجع على مغادرة الشرنقة.

 كيف يوظف الناهض الشرنقة لصالح مجتمعه؟

يمكن للإنسان الناهض أن يحول فترات الانسحاب من تحدٍ إلى فرص إيجابية تعود بالنفع على المجتمع ككل، وذلك من خلال:
1. تحويل الشرنقة إلى مختبر للتفكير الإبداعي
يمكن استثمار فترة الانعزال المؤقت لتطوير رؤى وحلول إبداعية للتحديات المجتمعية. فالانسحاب المدروس يتيح مساحة للتأمل العميق بعيداً عن ضغط المواجهة المباشرة، مما يسمح بتبلور أفكار جديدة قد لا تظهر في خضم الأحداث.
2. استثمار الشرنقة كمرحلة إعداد وتأهيل
مثلما تتحول اليرقة داخل الشرنقة إلى كائن أكثر قدرة، يمكن للناهض استغلال هذا الوقت في:
- تطوير مهاراته وأدواته اللازمة لمواجهة التحديات المجتمعية بفعالية أكبر
- القراءة المعمقة في تخصصات تخدم قضايا المجتمع
- وضع خطط استراتيجية لمشاريع مجتمعية مستقبلية تتجاوز ردود الأفعال الآنية
3. تحويل الخبرة الشخصية إلى نموذج تعليمي
يمكن للناهض توثيق رحلته من الشرنقة إلى التحرر، وتحليل أسباب انسحابه وكيفية تجاوزه لها، لتصبح تجربته نموذجاً تعليمياً يستفيد منه الآخرون في المجتمع. فالمرور بتجربة الشرنقة والخروج منها بوعي يمنح صاحبها بصيرة خاصة يمكن أن تُسهم في تبصير غيره.
4. بناء شبكات دعم متبادل
يستطيع الناهض المتحرر من شرنقته أن يؤسس مجموعات دعم لمن يمرون بتجارب مشابهة، محولاً بذلك الشرنقة من تجربة انعزالية فردية إلى حاضنة جماعية للتطوير والنمو المشترك. هذه الشبكات تصبح في حد ذاتها آلية مجتمعية للتعامل مع التحديات بطريقة أكثر فعالية.
5. تطوير منهجية تحليلية للمشكلات المجتمعية
يمكن استثمار حالة الانسحاب في تطوير أدوات تحليلية للتحديات المجتمعية، بدلاً من الاكتفاء بردود الأفعال الانفعالية. هذه المنهجية التحليلية تصبح إضافة نوعية للعمل المجتمعي، تنقله من مستوى المعالجات الظرفية إلى الحلول العميقة.
هكذا يتحول الناهض من مجرد فرد تخلص من شرنقته الشخصية إلى عنصر فاعل في تحرير مجتمعه من شرانق التحديات الوهمية، محولاً تجربته الشخصية إلى زخم إيجابي للتغيير المجتمعي. وبهذا تصبح الشرنقة ليست مجرد مرحلة سلبية يجب تجاوزها، بل فرصة للتزود والاستعداد لعطاء مجتمعي أكثر نضجاً وعمقاً وفعالية.

نختم :

الشرنقة الحقيقية في عالم الفراشات تمثل مرحلة تحول، يخرج منها الكائن أكثر جمالاً وقدرة على الطيران. أما الشرنقة الوهمية في حياة الإنسان فتمثل حالة ركود وجمود تحرمه من إمكانات النمو والتحليق.
لنتذكر دائماً أن الحياة ليست في تجنب التحديات، بل في مواجهتها بشجاعة وحكمة. وأن التجديد الحقيقي، والاغتسال الثقافي الذي تحدث عنه الرافعي، لا يتحقق إلا بالخروج من شرنقة المبررات الوهمية، والانطلاق نحو آفاق أرحب من المعرفة والتجربة.


كتب حسان الحميني
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.