هل نحاسب على ما فعلنا أم على ما يمكن أن نفعل؟
يثير هذا السؤال إشكالًا عميقًا في فهم طبيعة المسؤولية والجزاء في يوم القيامة: هل يحاسب الإنسان فقط على أفعاله الظاهرة؟ أم أن هناك محاسبة أيضًا على ما كان يمكن أن يفعله ولم يفعله، مع توفر القدرة والعلم والفرصة؟ في هذا المقال، نُبحر في ضوء النصوص القرآنية والعقلية لفهم هذا البُعد الجوهري في فلسفة العمل والجزاء.
أولًا: الأساس القرآني للمحاسبة
ينص القرآن الكريم في مواضع متعددة على أن الحساب الإلهي دقيق، يشمل الظاهر والباطن، الفعل والنية، والإمكانات المعطلة. يقول تعالى:
"إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولًا" [الإسراء: 36]
فهنا إشعار بأن مجرد وجود هذه القدرات يجعل الإنسان مسؤولًا عنها، أي مسؤولًا عن توظيفها بما يليق بها، لا بمجرد استعمالها أو تركها. فلو أن إنسانًا مبصرًا لم يغض بصره، فهو مسؤول، بينما الأعمى لا يُحاسب على غض البصر لأنه لا يملك القدرة عليه.
ويقول سبحانه:
"وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا" [الإسراء: 15]
وفي هذا تأكيد على أن الحساب لا يقع إلا إذا وُجدت الحجة، أي العلم والقدرة على الاختيار. فالمسؤولية مرتبطة بالقدرة، والقدرة تشمل القدرة الفعلية (ما فعله الإنسان) والقدرة الممكنة (ما كان يمكن أن يفعله لو أراد، ولكنه قصّر أو تكاسل).
ثانيًا: الفرق بين الإمكان والواجب
ليس كل ما يمكن فعله يصبح واجبًا شرعيًا، لكن هناك مساحة كبيرة من الواجبات المعطلة التي يُسأل عنها الإنسان يوم القيامة لأنه كان قادرًا على أدائها، ولكنه آثر الراحة أو التردد أو الجهل المفتعل.
فمثلاً:
• شاب ذكي، متعلم، عاش في بيئة تسمح له بالتعلم والقيادة، لكنه اختار العيش في الظل والانشغال بالتفاهات.
• امرأة واعية، قادرة على التأثير في مجتمعها، لكنها خضعت لضغط الخوف وفضلت الصمت.
• مسلم يملك المال والعلم والقدرة على بناء مشروع نافع للأمة، لكنه ظل في دائرة التمني دون تنفيذ.
كل هؤلاء لم يفعلوا شيئًا يستوجب العقوبة من حيث الظاهر، ولكنهم قصروا في ما كان يمكنهم فعله. وهنا يظهر بعدٌ جديد في المحاسبة: مسؤولية الإمكان المعطل.
ثالثًا: التمييز بين العجز والتفريط
العاجز الحقيقي غير مكلّف بما لا يقدر عليه، وهذا أصل في الشريعة:
"لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها" [البقرة: 286]
لكن من أخطر ما يواجه الإنسان أن يوهم نفسه بالعجز، في حين أنه في الحقيقة مفرط لا عاجز. لذلك جاء في الحديث:
"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز…" [رواه مسلم]
فالحديث يحمّل الإنسان مسؤولية السعي لما ينفع، وينفي العجز المفتعل. فمن كان قادرًا على العمل، قادرًا على النهوض، قادرًا على التعلم والإنجاز، ثم لم يفعل، فإن عليه حسابًا.
رابعًا: مفهوم الطاقة المُهدرة في ضوء السنن الإلهية
من سنن الله في المجتمعات أن النهضة لا تحدث إلا إذا استُثمرت الطاقات، لذلك فإن تعطيلها ليس فقط خسارة فردية، بل خيانة جماعية. حين يتخلى القادرون عن أداء دورهم، تنهار منظومة الاستخلاف التي تقوم على تحمل الأمانة:
"إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان" [الأحزاب: 72]
فالمسؤولية ليست فقط في ألا تسرق أو تقتل، بل في أن تنهض بما كُلّفت به، وبما وهبك الله من إمكانات.
خامسًا: أمثلة تطبيقية ومقارنة تربوية
• طالب يملك ذكاءً كبيرًا لكنه يكتفي بالنجاح الأدنى، سيُسأل: "لِمَ لم تطلب التفوق؟"
• مربي أو معلم يملك الحضور والكلمة والتأثير لكنه لا يسعى لبناء العقول، سيُسأل: "أين أثر علمك؟"
• كل موهبة غير مفعّلة، وكل نعمة لم تُستثمر، ستكون يوم القيامة حجة على صاحبها، لا له.
كما قال ابن القيم:
"العمر وقت، والوقت رأس مال الإنسان، فإذا ضيعه ضيّع رأس ماله، ومتى ضاع رأس المال لم يُنتظر الربح".
الخلاصة:
الإنسان يُحاسب على ما فعل، وعلى ما كان يمكن أن يفعل ولم يفعل، متى توفرت له القدرة والعلم والفرصة. والقرآن والسنة يعززان هذا المبدأ، ويُحذّران من خداع النفس بادعاء العجز. فالنجاة ليست فقط بالابتعاد عن الحرام، بل بالسعي نحو الواجبات الكبرى، واستثمار القدرات، وعدم ترك الطاقات تتحلل في دائرة التردد والكسل واللامبالاة.
د.سامر الجنيدي_القدس