استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

العدل والتجرد للحق في ميزان النهضة

مقدمة: بين المشاعر الإنسانية وميزان العدل

الإنسان كائن تعتمل في داخله المشاعر؛ يفرح للمدح، ويتألم للقدح، يحب من أحسن إليه، وقد يبغض من أساء إليه أو خالفه. هذه طبيعة بشرية أودعها الله فينا لحكم عظيمة. لكن هذه المشاعر، على أهميتها وضرورتها للحياة الإنسانية، يمكن أن تتحول إلى حجاب كثيف يحجب رؤية الحق، أو إلى قوة جارفة تميل بميزان العدل، إذا لم تُضبط بضابط الإيمان والعقل والتقوى. وهنا يأتي النداء القرآني المباشر والحاسم في سورة المائدة، ليضع للمؤمنين، وخاصة للناهضين والقادة منهم، الميزان الدقيق الذي يجب أن يحكم علاقاتهم ومواقفهم وأحكامهم: إنه ميزان العدل المطلق المتجرد لله، الذي لا يتأثر بمحبة أو بغضاء. يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (المائدة: 8). فكيف تؤسس هذه الآية لمنهج العدل الشامل؟ وما هي متطلباته ودروسه للناهض في مسيرته؟

أولاً: الأمر بالقيام لله والشهادة بالقسط

تبدأ الآية بتوجيه المؤمنين إلى مرتبة عالية من الالتزام: "كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ".

"قَوَّامِينَ لِلَّهِ": صيغة المبالغة تدل على كثرة القيام وكماله لله وحده، ابتغاء وجهه، وتنفيذًا لأمره. وهذا القيام لله هو الأساس الذي يحرر الإنسان من الخضوع لأي مؤثر آخر عند إقامة الحق. ويرتبط هذا الجذر (ق و م) ارتباطًا وثيقًا بمفهوم "القِيَم"، فكأن الأمر هنا هو بالقيام على القيمة العليا التي يرضاها الله، وهي العدل والحق.

"شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ": أي مبالغين في أداء الشهادة بالعدل التام، دون ميل أو محاباة. والشهادة هنا، كما يمكن أن يُفهم من عمق المعنى، ليست مجرد قول باللسان، بل قد تشمل "الحضور" الواعي وتمثل القيمة نفسها في السلوك والموقف، فالشاهد بالقسط هو من يتجسد فيه القسط قولاً وفعلاً وحضورًا.

ثانياً: قمة التحدي: العدل مع أهل الشنآن

تأتي الآية لتضع هذا المبدأ أمام أصعب اختبار عملي، وهو تحقيق العدل مع من نبغضهم أشد البغض: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا". هذا نهي صريح وقاطع عن أن تدفعنا الكراهية الشديدة والبغضاء العميقة (شنآن) إلى ترك العدل مع أصحابها. إنها دعوة للارتقاء فوق المشاعر الشخصية والانفعالات، والتمسك بميزان الحق حتى مع ألد الأعداء. فإذا كان العدل واجبًا مع من نبغضهم بشدة، فمن باب أولى وجوبه مع من نختلف معهم اختلافًا أقل، أو من أخطأ في حقنا خطأً عابرًا. إنه تأكيد على أن عدل المؤمن لا يتأثر بمدح مادح أو قدح قادح، بل معياره الوحيد هو الحق الذي أمر الله به.

ثالثاً: "اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ" - العدل طريق التقوى

تؤكد الآية الأمر بالعدل بشكل مباشر: "اعْدِلُوا"، ثم تربطه مباشرة بالغاية الأسمى للمؤمن وهي التقوى: "هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ". فالعدل، وخاصة العدل المنزه عن الهوى والمشاعر، هو من أقرب الطرق وأخصرها لتحقيق تقوى الله. لماذا؟ لأنه يتطلب مجاهدة عظيمة للنفس، وتقديمًا لأمر الله على هوى الذات، ووقاية للنفس من الوقوع في الظلم الذي هو من أكبر أسباب سخط الله. فالتقوى، كما أشار الإمام الحرالي، تتضمن "الحذر من الاستبداد والاستغناء"، والعدل هو التطبيق العملي لهذا الحذر، وهو المقابل الإيجابي له.

رابعاً: الضمانة والرقابة: التقوى وعلم الله الخبير

تختم الآية بتذكير مزدوج يمثل الضمانة والرقابة: "وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".

الأمر المتجدد بالتقوى: لتكون السياج الحامي للعدل، والدافع المستمر للتمسك به.

التذكير بعلم الله الشامل (خبير): فهو سبحانه لا يعلم فقط أعمالنا الظاهرة، بل يعلم خفايا نفوسنا، ودوافعنا، ومقدار تجردنا للحق، ومجاهدتنا لأهوائنا. هذا العلم الإلهي هو الرقيب الأعلى، وهو مصدر الوعد بالجزاء لمن عدل وأخلص، والوعيد لمن حاد وظلم.

خاتمة: العدل أساس الملك وقيمة الناهض

إن آية المائدة هذه ليست مجرد أمر قضائي، بل هي منهج حياة وأساس للملك بمعناه الشامل (التمكين والاستقرار والازدهار). فكما قيل: "العدل أساس الملك"، ولا يمكن لأي كيان – فردًا كان أم جماعة أم أمة – أن "يمتلك" وجوده الحقيقي وفاعليته الرشيدة ما لم "يمتلك قيمة العدل" كقيمة مركزية حاكمة لسلوكه وقراراته. فالعدل هو وضع كل شيء في موضعه الصحيح، والتفريط فيه، حتى في الأمور الصغيرة كإهمال مسؤولية، هو تفريط في هذه القيمة الأساسية.
وعلى الناهض القائد تقع مسؤولية أكبر في تحقيق هذا العدل الشامل والمتجرد:
  • في نفسه أولاً: بمجاهدة هواه ومشاعره الشخصية لئلا تؤثر على عدله.
  • في أحكامه ومواقفه: بالتثبت والتبيُّن قبل إصدار الأحكام، والإنصاف في تقييم الأشخاص والمواقف.
  • في توزيع الحقوق والمسؤوليات: بإعطاء كل ذي حق حقه، ووضع كل فرد في مكانه المناسب حسب كفاءته وأمانته.
  • في بناء مجتمعه: بنشر ثقافة العدل، ومقاومة الظلم، والسعي لإقامة القسط بين الناس.
فالناهض الذي يكون "قوّامًا لله شاهدًا بالقسط"، لا يحمله بغض أو حب على ترك العدل، متسلحًا بالتقوى، مستشعرًا لرقابة الله الخبير، هو الناهض الأقدر على بناء مجتمع صالح وتحقيق نهضة حقيقية ومستدامة. والحمد لله رب العالمين.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.