مقدمة: ظواهر مقلقة ونظرة قاصرة
كثيرًا ما تُثار في مجتمعاتنا نقاشات حادة وتُعقد الندوات حول ظواهر مقلقة كالعنف المدرسي، أو انتشار بعض السلوكيات السلبية. وفي خضم هذه التفاعلات، يُلحظ أحيانًا ما يمكن وصفه بـ "البلادة المجتمعية"، وهي حالة من التركيز شبه الحصري على قمة "جبل الجليد" الظاهرة، مع غفلة – مقصودة أو غير مقصودة – عن الغوص لفهم القاعدة الضخمة المغمورة التي تمثل الجذور الحقيقية لهذه المعضلات. إن الاكتفاء بمعالجة الأعراض الظاهرة دون استئصال الأسباب العميقة لهو كَمَنْ يحاول تجفيف أرض مبتلة دون إغلاق مصدر الماء؛ إنه جهد محكوم عليه بالفشل أو، في أحسن الأحوال، بالنجاح المؤقت والسطحي. يهدف هذا المقال إلى التأكيد على ضرورة تجاوز هذه النظرة السطحية، مستلهمين من هدي القرآن الكريم وأقوال أهل العلم، سعيًا لفهم طبيعة هذه الجذور ووجوب التعامل معها بحذاقة وبصيرة.
طبيعة الجذور الخفية: منظومة معقدة تعيش في الظلمة
إن ما يغيب عن الأنظار في كثير من الأحيان هو أن هذه الجذور ليست مجرد أسباب بسيطة ومنفصلة، بل هي غالبًا منظومة معقدة "تعيش في الظلمة متشابكة كالنبات". هذا التوصيف يكشف عن طبيعتها المركبة:
الخفاء والاستتار: فهي ليست واضحة للعيان، وتحتاج إلى جهد للكشف والتنقيب يتجاوز الملاحظة السطحية.
التشابك والمنظومية: هي شبكة معقدة تتغذى عناصرها على بعضها البعض (كالأزمات الأسرية، والخلل القيمي، والضغوط الاقتصادية، والتأثير الإعلامي السلبي، والضعف التربوي...). التعامل مع جزء منها بمعزل عن الكل قد يكون عديم الجدوى أو حتى ضارًا.
تعدد الرؤوس: للمشكلة الواحدة تجليات وأسباب متعددة ومتنوعة، مما يجعل المواجهة تتطلب استراتيجية شاملة ومتعددة المحاور.
عامل الزمن: هذه المنظومات لم تنشأ فجأة، بل هي نتاج تراكمات زمنية طويلة من الإهمال أو التدهور. وبالتالي، فإن معالجتها تتطلب هي الأخرى صبرًا استراتيجيًا ونفسًا طويلاً، وإدراكًا لتكلفة التأخير المستمر.
إن هذه الطبيعة المعقدة (الخفاء، التشابك، تعدد الرؤوس، البعد الزمني) هي ما يجعل المعالجة السطحية غير مجدية، وتفرض على الساعي للإصلاح امتلاك حذاقة عميقة للتشخيص والتعامل معها.
القرآن يأمر بالنظر إلى الباطن: تدبر في تحريم الفواحش (الأعراف: 31)
يأتي الهدي القرآني ليضع الأساس المنهجي للتعامل مع هذه الإشكالية. يقول تعالى في سورة الأعراف (الآية 31 حسب العد الشائع):
﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
إن قوله تعالى ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ لا يقتصر فقط على التقسيم الفئوي للفواحش (ظاهرة كالسرقة، وباطنة كالحقد)، بل هو يتضمن معنى أعمق: إن نفس الفاحشة أو الإثم الواحد له ظاهر منظور وباطن مستور مرتبط به ارتباطًا وثيقًا. فالله لم يحرم الفعل القبيح الظاهر فحسب، بل حرم أيضًا كل ما يكتنفه من دوافع ونوايا ومشاعر وأفكار باطنة هي جزء لا يتجزأ من حقيقة هذا الفعل وقُبحه.
استئناس بأقوال المفسرين: تأكيد شمولية التحريم ونفاذ الإسلام للأعماق
وقد أشار المفسرون إلى شمولية هذا التحريم وأهمية الباطن، مما يدعم هذا الفهم. يقول الإمام ابن عطية الأندلسي رحمه الله في "المحرر الوجيز" معلقًا على ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾:
"يجمع النوع كله لأنه تقسيم لا يخرج عنه شيء، وهو لفظ عام في جميع الفواحش."
هذا التأكيد على الشمولية يفتح الباب لفهم أن التحريم يشمل أبعاد الفاحشة الواحدة (ظاهرها وباطنها) كما يشمل أنواعها.
ويزيد الأمر وضوحًا الشيخ المكي الناصري رحمه الله في تفسيره "التيسير في أحاديث التفسير"، حيث يؤكد على أن الإسلام لا يقف عند المظاهر:
"وقوله تعالى هنا: {ما ظهر منها وما بطن} بعد ذكر الفواحش وإعلان تحريمها بصفة عامة تنبيه إلى أن الإسلام لا يكتفي من معتنقيه بالشكليات والظواهر، ولا يرضى منهم بالنفاق، وإنما ينفذ إلى الأعماق والبواطن، فالنية الفاسدة والقصد السيئ والخلق المرذول الذي ينطوي عليه الشخص باطنا، والعمل القبيح الذي يتستر به عن الأعين، كل ذلك يعتبره الإسلام ذنبا ومعصية وفاحشة يؤاخذ بها المكلف، مثل ما يؤاخذ بالفواحش الظاهرة، والإسلام حريص على أن يكون الظاهر عنوان الباطن بالنسبة للمسلم..."
كما يلفت الشيخ الناصري النظر إلى كيف أن "القرينة" الباطنة أو السياقية قد تغير درجة الذنب، وكيف أن "محقرات الذنوب" (التي قد تكون باطنة أو ظاهرة صغيرة) تتراكم لتحدث أثرًا كبيرًا، مستشهدًا بحديث جمع الحطب:
"أترون هذا، فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا، فليتق الله رجل، ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة، فإنها محصاة عليه..."
تؤكد هذه الأقوال أن الباطن ليس أمرًا ثانويًا، بل هو محل نظر الشرع واهتمامه، وأن الظاهر غالبًا ما يكون انعكاسًا له، وأن تراكم الإشكالات الباطنة هو ما ينتج الكوارث الظاهرة.
وجوب النظر إلى المستور: استلهام قاعدة أصولية
بناءً على هذا الفهم، ولأن المعالجة الفعالة للمشكلات الظاهرة المقلقة (وهو مطلب شرعي واجتماعي) لا تكتمل غالبًا إلا بفهم جذورها الباطنة ومعالجتها، يمكن الاستئناس بالقاعدة الأصولية المعروفة: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". وعليه، فإن النظر إلى المستور وتفكيك عناصره يصبح ضرورة منهجية لتحقيق الإصلاح والمعالجة الحقيقية. فلا يصح التعلل بالصعوبة أو التعقيد للتهرب من هذا المتطلب المنهجي الجوهري.
تأصيل قرآني آخر: مثل البلد الطيب والخبيث (الأعراف: 57)
ويأتي تأصيل قرآني آخر في نفس السورة ليرسخ هذا المعنى من خلال مثل بليغ، وهو قوله تعالى:
﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾
[الأعراف 57]
هذه الآية هي تجسيد حي لعلاقة الباطن (الأرض/البلد) بالظاهر (النبات). صلاح الباطن (طيبة الأرض) يؤدي إلى صلاح الظاهر (نبات طيب)، وفساد الباطن (خُبْث الأرض) يؤدي حتمًا إلى فساد الظاهر أو ضعفه (نبات نَكِد). وهذا المثل ينطبق أتم الانطباق على القلوب والنفوس والمجتمعات. ومحاولة إصلاح "النبات النكد" (الظواهر السلبية) دون إصلاح "الأرض الخبيثة" (الجذور الباطنة الفاسدة) هو عمل قاصر ومحدود الأثر.
خاتمة: نحو حذاقة المصلح وبصيرته
إن تجاوز "البلادة المجتمعية" والانتقال من معالجة قشور المشكلات وظواهرها إلى استئصال جذورها الباطنة المتشابكة ليس مجرد خيار أفضل، بل هو ضرورة منهجية تفرضها طبيعة المشكلات نفسها ويؤكدها هدي القرآن الكريم. وهذا يتطلب من المصلح، فردًا كان أو مؤسسة، أن يتحلى بصفات ومهارات تتجاوز الحماس والرغبة في الخير، لتشمل:
- البصيرة النافذة: القدرة على رؤية ما وراء الظاهر.
- الحذاقة التحليلية: القدرة على فهم التشابك والمنظومية وتفكيك العناصر.
- الوعي بالزمن: إدراك البعد التاريخي للمشكلة وتكلفة التأخير.
- الصبر الاستراتيجي: الاستعداد للعمل طويل الأمد وعدم استعجال النتائج.
- الشجاعة: مواجهة الحقائق الصعبة وتسمية الأشياء بأسمائها.
- الرؤية الشمولية: القدرة على التعامل مع المنظومة ككل وحشد الجهود المتكاملة.
بمثل هذه الحذاقة والبصيرة، المستمدة من فهم عميق للواقع وهدي الوحي، يمكننا أن نأمل في الانتقال من مجرد التعامل مع قمة جبل الجليد إلى الغوص لاستئصال قاعدته المظلمة، وصولاً إلى الإصلاح الحقيقي والمستدام الذي ننشده لأمتنا ومجتمعاتنا.
والله تعالى أعلم، وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.