استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

لا تَرْعَ مَعَ الهَمَلِ (كيفَ يتحرّى الناهِضُ رَشَدًا في زمنِ "اللَّمَجِ الفِكْرِيَّة"؟)

مقدمة: بينَ الطموحِ النبيلِ وآفاتِ العصر

"لقدْ رشّحوكَ لأمرٍ لو فطِنتَ لهُ فاربأْ بنفسِكَ أنْ ترعى معَ الهَمَلِ". هذا البيتُ الشعريُّ البليغُ يُلخِّصُ رسالةَ كُلِّ ناهِضٍ يسعى لغايةٍ ساميةٍ وهدفٍ نبيل. فالناهِضُ الذي يُدرِكُ قيمةَ ما رُشِّحَ لهُ مِنْ مهمّةِ البناءِ والإصلاح، لا يرضى لنفسِهِ أنْ ينجرِفَ مع تيّارِ الغفلةِ أو السطحيةِ، بل يسعى دائمًا لـ"تحرّي الرَّشَد" في فِكرِهِ ومنهجِهِ وعملِه. ولكن، في عصرِنا هذا الذي تسودُ فيهِ ثقافةُ السرعةِ والاستهلاكِ العابِر، تبرُزُ آفةٌ خطيرةٌ تُهدِّدُ هذا المسعى النبيل، وهي ما يُمكنُ أنْ نُسمّيَهُ "الوجباتِ السريعةَ الفِكرية" أو "اللَّمَجَ العابِرة".

"اللَّمَجُ الفِكْرِيَّةُ": حينَ يُصبحُ العِلْمُ وَجبةً سريعة

إنَّ "الوجباتِ السريعةَ الفِكرية" هي تلكَ الأفكارُ والمعلوماتُ والتوجيهاتُ التي تُقدَّمُ بشكلٍ مُبسَّطٍ ومُختَزَل، سهلةِ التناوُل، جذّابةٍ في ظاهرِها، ولكنّها غالبًا ما تكونُ فقيرةً في قيمتِها المعرفيةِ الحقيقية، وتفتَقِرُ إلى العُمقِ المنهجيِّ والتحليلِ النقدي. قدْ يكونُ لها دورٌ محدودٌ "كعنصرٍ يتكامَلُ في تنوُّعِ" وسائلِ التوعيةِ والتعليم، ولكنَّ الخطرَ يكمُنُ في أنْ تتحوّلَ إلى "مُرتكَزٍ يستقيلُ مِنْ خِلالِهِ الداعيةُ (أو المُربّي) مِنْ تبعاتِ المشاريعِ العظيمة".
فالأخطرُ في هذهِ "اللَّمَجِ العابِرة" أنّها، كما قيلَ بحقّ، "تُكسِبُ عادةً مُخالِفةً للسُنَن"، وتُؤدّي إلى "تحييدِ قِيَمٍ مُهمّةٍ وتعطيلِ أثرِها". فقيمةُ "الصبرِ" على طلَبِ العِلمِ العَميق، وقيمةُ "العِلمِ" نفسِهِ بمعناهُ الراسِخ، وقيمةُ "طولِ النَّفَسِ" في التربيةِ والبناء، كُلُّها تتعرّضُ للتحييدِ والتعطيلِ أمامَ ثقافةِ الاستعجالِ والسطحيةِ التي تُروِّجُ لها هذهِ "اللَّمَج". فالعُظماءُ، كما هو معلومٌ، لا تُبنى شخصيّاتُهُمْ بِلَمَجٍ عابِرة، بل بالعِلمِ الراسِخِ والمُجاهَدةِ الطويلة.

"تَحَرِّي الرَّشَد": مَطلَبُ الناهِضِ ومُهمّتُهُ الجسيمة

إنَّ الناهِضَ الحقيقيَّ هو الذي "يبني بناءً عَميقًا رشيدًا ينفعُ بهِ أُمّتَه". ولكي يتحقّقَ لهُ ذلك، "عليهِ أنْ يتحرّى الرَّشَدَ" في كُلِّ خطوة. وهذا "التحرّي"، كما يُشيرُ عُمقُ المعنى، "مُتطلَّبٌ فيهِ مُجاهَدة، فهوَ يُحيلُنا إلى شِدّةٍ تحتاجُ صبرًا". فالرَّشَدُ ليسَ أمرًا سهلَ المنال، بل هو غايةٌ نبيلةٌ تتطلّبُ جُهدًا وصبرًا ومُثابَرة.
وفي سورةِ الجِن، نجدُ إشارةً قُرآنيةً بليغةً إلى هذا المعنى، في قولِ الجِنِّ الذينَ آمَنوا:
﴿وَأَنَّا مِنَّا ٱلۡمُسۡلِمُونَ وَمِنَّا ٱلۡقَٰسِطُونَۖ فَمَنۡ أَسۡلَمَ فَأُوْلَٰٓئِكَ تَحَرَّوۡاْ رَشَدٗا﴾ (الجن: 14).
يُبيِّنُ المُفسِّرونَ أنَّ "القاسِطينَ" هُمُ الجائِرونَ الظالِمونَ العادِلونَ عن الحَق، كما قالَ الإمامُ الطبريُّ رحمهُ الله نقلاً عن ابنِ عباسٍ ومُجاهد. وفي مُقابِلِهم، "المُسلِمونَ" الذينَ خضَعوا للهِ بالطاعة.
أمّا قولُهُ تعالى ﴿فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾، فيُفسِّرُهُ الإمامُ الطبريُّ بأنّهم "تعمّدوا وترجّوْا رَشَدًا في دينِهم". ويُضيفُ الإمامُ الماتُريديُّ رحمهُ اللهُ أنَّ "التحرّي والتَّوَخّي هو القَصْد؛ فكأنّهُ يقول: قصَدَ الرَّشَدَ بالإسلام". ويرى الإمامُ ابنُ عطيّةَ رحمهُ اللهُ أنَّ "تَحرّوا" معناها "طلبوا باجتِهادِهم". ويتعمّقُ سيد قطبٍ رحمهُ اللهُ في دلالةِ "تَحرّوا" فيقول: "والتعبيرُ بلفظِ (تَحرّوا) يُوحي بأنَّ الاهتداءَ إلى الإسلامِ معناهُ الدِقّةُ في طلَبِ الرَّشَدِ والاهتداءِ -ضِدَّ الغَيِّ والضلال- ومَعناهُ تَحرّي الصوابِ واختيارُهُ عن معرفةٍ وقَصْدٍ بعدَ تبيُّنٍ ووُضوح. وليسَ هو خَبْطَ عَشواءَ ولا انسياقًا بغيرِ إدراك".
ويُنبِّهُ الإمامُ ابنُ عاشورٍ رحمهُ اللهُ إلى أنَّ قولَهُ تعالى ﴿فَمَنْ أَسْلَمَ...﴾ قدْ يكونُ كلامًا مِنْ جانِبِ اللهِ تعالى لموعِظةِ الناس، وأنَّ "التحرّي" هو "طلَبُ الحَرَا (بفتحتين)، وهو الشيءُ الذي ينبغي أنْ يُفعَل"، وأنَّ "الرَّشَدَ" هو "الهُدى والصواب"، وتنوينُهُ للتعظيم.

خُلاصةٌ للناهِض: مِنْ لَمَجِ السطحيّةِ إلى عُمقِ الرَّشَد

إنَّ "اللَّمَجَ الفِكريةَ" لا يُمكِنُ أنْ تكونَ "تَحرِّيًا للرَّشَد" بمعناهُ القُرآنيِّ العميقِ الذي يقتضي الاجتهادَ والقَصْدَ والمعرفةَ والدِقّة. بل هي قدْ تُعيقُ هذا التحرّي وتُضعِفُ القُدرةَ عليه.
فالناهِضُ الذي يُريدُ أنْ "يَربأَ بنفسِهِ أنْ يَرعى معَ الهَمَل"، عليهِ أنْ:
يتجاوَزَ ثقافةَ "اللَّمَجِ الفِكريةِ" كَمُرتكَزٍ أساسي: وليجعلْها، إنْ دعتِ الحاجة، مُجرّدَ عُنصرٍ مُكمِّلٍ في تنوُّعِ الأساليب.
يتحرّى الرَّشَدَ باجتهادٍ وصبر: فالمشاريعُ العظيمةُ تتطلّبُ بناءً فِكريًّا ومَنهجيًّا عَميقًا وراسِخًا.
يُربّي نفسَهُ ومَنْ معهُ على "طولِ النَّفَسِ" و "الصبرِ" و "العِلمِ العَميق": فهذهِ هي القِيَمُ التي تُؤسِّسُ للنهضةِ الحقيقية.
**يستلهِمَ مِنْ نُصوصِ الوَحيِ ومنهجِ السلَفِ الصالِحِ أهميّةَ الدِقّةِ والقَصْدِ والمعرِفةِ في اختيارِ طريقِ الرَّشَد.

خاتِمة:

إنَّ "تَحرّيَ الرَّشَدِ" ليسَ مُجرّدَ شِعار، بل هو مَنهجُ حياةٍ وعملٍ يتطلّبُ مُجاهَدةً وصبرًا وعِلمًا. وفي زمنٍ تُحاوِلُ فيهِ "اللَّمَجُ الفِكريةُ" أنْ تُسطِّحَ الوَعيَ وتُحيِّدَ القِيَم، تزدادُ الحاجةُ إلى ناهِضينَ يتحرّونَ الرَّشَدَ بعُمقٍ وبصيرة، ليَبنوا بناءً راسِخًا ينفعُ أُمّتَهم ويُرضي ربَّهم.


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.