مقدمة: ما وراءَ القُوّةِ والأمانة
في مسيرةِ الحياة، وفي كُلِّ عملٍ نُقدِمُ عليهِ أو مسؤوليةٍ نتحمّلُها، يبرُزُ سؤالٌ جوهريٌّ حولَ معاييرِ الاختيارِ والجدارة. هل تكفي القُوّةُ وحدَها للإنجاز؟ أمْ هل تكفي الأمانةُ وحدَها للثقة؟ إنَّ القُرآنَ الكريمَ يُقدِّمُ لنا، في آيةٍ مُوجَزةٍ وبليغةٍ مِنْ سورةِ القَصَص، قاعدةً ذهبيةً تتجاوَزُ مُجرّدَ الجمعِ السطحيِّ بينَ صِفتين، لتَرسِمَ ملامِحَ ما يُمكنُ أنْ نُسمّيَهُ "القُوّةَ الائتمانية": تلكَ القُوّةُ الفاعِلةُ التي تُؤطِّرُها الأمانةُ وتُوجِّهُها المسؤولية. ففي زمنٍ كثُرَ فيهِ الحديثُ عن الكفاءةِ بمعزِلٍ عن القِيَم، وعن النزاهةِ بمعزِلٍ عن القُدرة، تأتي هذهِ الآيةُ لتُذكِّرَنا بأنَّ النموذجَ الأمثلَ هو الذي يجمَعُ بينَهُما في وَحدةٍ عُضويةٍ لا تنفصِم.
مشهَدٌ مِنْ حياةِ موسى: شهادةٌ بالفِطرة
في خِضَمِّ رِحلةِ نبيِّ اللهِ موسى عليهِ السلام، وبعدَ أنْ سقى للمرأتينِ شهامةً ومُروءة، تأتي شهادةٌ فِطريةٌ مِنْ إحداهُما لأبيها:
﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ (القَصَص: 26)
هذهِ الشهادة، الصادِرةُ عن بصيرةٍ نقيّة، لم تكُنْ مبنيّةً على سيرةٍ ذاتيةٍ مُفصَّلةٍ أو اختباراتٍ مُعقَّدة، بل على مُلاحظةٍ مُباشِرةٍ لسُلوكٍ عمليٍّ كشَفَ عن جوهرِ شخصيةِ موسى عليهِ السلام. لقدْ رأتْ فيهِ ما يُؤهِّلُهُ ليكونَ "خيرَ مَنِ استُؤجِر". فما هي أبعادُ هذهِ "القُوّةِ" و "الأمانةِ" التي اجتمعتْ فيه، وكيفَ تُشكِّلانِ معًا "القُوّةَ الائتمانية"؟
تفكيكُ مِعياريْ "القويِّ الأمين"
لقدْ عُنِيَ المُفسِّرونَ بتوضيحِ معاني هاتينِ الصِفتينِ الجليلتين:
"الْقَوِيُّ": ليستْ مُجرّدَ قُوّةٍ جسدية، وإنْ كانتْ ظاهِرةً في مَوقِفِ موسى عندَ السقي. بل هي، كما أشارَ الشيخُ مُحمّد المكي الناصِريُّ رحمهُ الله، قُوّةٌ تشمَلُ "القُوّةَ الجِسميةَ والقُوّةَ الفِكرية، مِنْ فِطنةٍ وكياسةٍ، وسُرعةِ بديهةٍ، وحُسنِ تصرُّفٍ". فالقُوّةُ المطلوبةُ هي الكفاءةُ والقُدرةُ على إنجازِ العملِ المطلوبِ على الوجهِ الأكمَل، وفَهْمُ التحدّياتِ وحُسنُ التعامُلِ معها. ويُؤكِّدُ الشيخُ السعديُّ رحمهُ اللهُ أنَّ القُوّةَ هي "القُدرةُ على ما استُؤجِرَ عليهِ". إنّها القُوّةُ الفاعِلةُ والمُنتِجة.
"الْأَمِينُ": ليستْ فقطْ عدَمَ السرِقة، بل هي النزاهةُ الشامِلة. فالإمامُ البِقاعيُّ رحمهُ اللهُ يرى أنَّ أمانةَ موسى تفرّستْ فيها ابنةُ شُعيبٍ مِنْ "حيائِهِ، وعِفّتِهِ في نظرِهِ ومقالِهِ وفِعالِهِ، وسائِرِ أحوالِهِ". ويصِفُها الشيخُ المكي الناصِريُّ بأنّها "بالنسبةِ لكُلِّ عامِلٍ صِمامُ الأمان، الذي يحولُ بينَهُ وبينَ الغِشِّ والكسَلِ والإهمال، ويحميهِ مِنْ سوءِ التصرُّفِ والرِشوةِ والاستغلال". فالأمانةُ هي الضميرُ الحيُّ، والخوفُ مِنَ الله، والالتزامُ الأخلاقيُّ الذي يضمَنُ أنْ تُستخدَمَ القُوّةُ في مسارِها الصحيح.
نحوَ "القُوّةِ الائتمانية": الأمانةُ ككابِحٍ ومُوجِّهٍ للقُوّة
إنَّ مُجرّدَ تعدادِ "القُوّةِ" و "الأمانةِ" كصِفتينِ مُنفصِلتينِ قدْ لا يَفي بالعُمقِ المطلوب. فالتحدّي الحقيقي، والآفةُ التي تُعاني مِنها مُجتمعاتُنا أحيانًا، هي وُجودُ قُوّةٍ بلا أمانةٍ تُوجِّهُها، أو أمانةٍ بلا قُوّةٍ تسنُدُها. الآيةُ الكريمةُ تدعونا إلى ما هو أعمَق: "القُوّةُ الائتمانية"، حيثُ تكونُ الأمانةُ هي الروحَ الحاكِمةَ والمُوجِّهةَ للقُوّة.
فالقُوّة، سواءٌ كانتْ قُوّةَ جسَدٍ، أو قُوّةَ عِلمٍ، أو قُوّةَ مالٍ، أو قُوّةَ سُلطةٍ، أو حتى قُوّةَ الذكاءِ الاصطناعيِّ في عصرِنا، إذا لم تُؤطِّرْها الأمانةُ وتضبِطْها المسؤولية، يُمكنُ أنْ تتحوّلَ إلى أداةٍ للفسادِ والطُغيانِ والضرَر، حتى لو كانَ دافِعُها في البدايةِ نبيلًا، كما تُعلِّمُنا قصةُ موسى عليهِ السلامُ نفسُهُ في حادِثةِ قتلِهِ القِبطيَّ خطأً قَبلَ تمامِ نُضجِهِ واستيعابِهِ لضوابِطِ استخدامِ القُوّة.
الأمانةُ هنا تعمَلُ كـ*"كابِحٍ"* يمنَعُ القُوّةَ مِنَ الانحراف، و "كمُوجِّهٍ" يضمَنُ استخدامَها في الخيرِ والنفع. إنّها القُوّةُ التي صاحِبُها يُدرِكُ أنّها "أمانةٌ" و "مسؤوليةٌ" و "ائتمانٌ" مِنَ الله، سيُسألُ عن كيفيةِ استخدامِها.
الناهِضُ.. وتجسيدُ القُوّةِ الائتمانية
إنَّ مفهومَ "القُوّةِ الائتمانية" يُقدِّمُ للناهِضِ والمُصلِحِ منهجًا مُتكاملًا:
السعيُ المُتوازِن: لا يكفي أنْ يسعى الناهِضُ لاكتسابِ القُوّةِ والكفاءة، بل يجبُ أنْ يُوازيَ ذلكَ بسعيٍ حثيثٍ لترسيخِ الأمانةِ والنزاهةِ والقِيَمِ في نفسِهِ وفريقِهِ ومنهجِه.
الاختيارُ الواعي: عندَ اختيارِ العامِلينَ أو الشُركاءِ أو القادة، لا ينبغي الاكتفاءُ بالكفاءةِ الظاهِرة، بل يجبُ التفرُّسُ في مدى اقترانِ هذهِ الكفاءةِ بالأمانةِ والمسؤولية.
التأهيلُ الشامِل: التأهيلُ المطلوبُ للنهوضِ ليسَ فقطْ تأهيلًا فنِّيًّا لاكتسابِ القُوّة، بل هو أيضًا تأهيلٌ قِيَميٌّ وأخلاقيٌّ لترسيخِ الأمانة.
القُدوةُ العملية: الناهِضُ مُطالَبٌ بأنْ يكونَ هو نفسُهُ نموذجًا للقُوّةِ الائتمانية، يرى الناسُ فيهِ كيفَ تجتمِعُ الكفاءةُ معَ النزاهة، والقُدرةُ معَ المسؤولية.
مَطلَبٌ للحياةِ لا للمَنصِب: الأهمُّ أنْ تكونَ هذهِ "القُوّةُ الائتمانيةُ" مَطلَبًا ذاتيًّا ومنهجَ حياةٍ للناهِض، يسعى للتحلّي بها سواءٌ كانَ في مَوقِعِ مسؤوليةٍ أمْ لم يكُن، لأنّها هي التي تُؤهِّلُهُ لأداءِ دورِهِ في الحياةِ على الوجهِ الأكمَل.
خاتِمة: حينَ تكتَمِلُ الصورة
إنَّ آيةَ القَصَصِ تُقدِّمُ لنا مِعيارًا خالِدًا لاختيارِ الرِجالِ ولبناءِ الأعمالِ الصالِحة. "القويُّ الأمينُ" ليسَ مُجرّدَ وصفٍ لشخص، بل هو دعوةٌ لتبنّي "القُوّةِ الائتمانيةِ" كمنهجِ حياةٍ وكأساسٍ لكُلِّ عملٍ نهضوي. فعندما تجتمِعُ الكفاءةُ معَ المسؤولية، والقُدرةُ معَ النزاهة، والقُوّةُ معَ الأمانة، تكتَمِلُ الصورة، ويتحقّقُ المُراد، ويفرُغُ البال، وتُبنى الحضاراتُ على أُسُسٍ راسِخةٍ مِنَ الحقِّ والعدلِ والخير. وكما قالَ الحكيمُ الذي استشهَدَ بهِ الشيخُ المكي الناصِري: "إذا اجتمعتْ هاتانِ الخَصلتانِ الكِفايةُ (القُوّةُ) والأمانةُ في القائِمِ بأمرِك، فقدْ فرَغَ بالُك، وتمَّ مُرادُك".
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.