مقدمة: العقل في ميزان القرآن
بعد رحلتنا في استكشاف طبيعة المفاهيم، وآليات تشكلها، وديناميكياتها الداخلية، وتفاعلها مع كيان الإنسان، وتجلياتها في القيم والثقافة، نصل الآن إلى محطة جوهرية وأساسية : كيف ينظر القرآن الكريم، مصدر الهداية الأول للمسلمين، إلى العقل ودوره في بناء المفاهيم والمعرفة؟ وهل يتفق المنظور القرآني مع ما استنتجناه حول أهمية "اعتقال المعاني" كمفتاح للفهم والوعي؟
إن القرآن الكريم لم يقدم لنا "نظرية" مفصلة في علم النفس المعرفي، ولكنه يزخر بالإشارات العميقة والدعوات المتكررة إلى التعقل، والتفكر، والتدبر، والنظر، والاعتبار. هذه الدعوات ليست مجرد حث عام، بل هي تكشف عن رؤية قرآنية أصيلة لطبيعة العقل ووظيفته ومصادر معرفته. هذا المقال هو الجزء الأول من استكشافنا لهذا المنظور القرآني، وسنركز فيه على فهم "العقل كفعل اعتقال للمعاني" وعلى مكانة "الوحي" كمصدر أساسي لهذه المعاني.
العقل في القرآن: نشاط حيٌّ وفعل مستمر
من الملاحظات اللغوية الدقيقة والمستمرة في الاستخدام القرآني، أن الإشارة إلى العقل تأتي دائمًا من خلال صيغة الفعل (يعقلون، تعقلون، نعقل...) أو ما يرتبط به ارتباطًا وثيقًا (أفلا يعقلون، لعلكم تعقلون، قلوب يعقلون بها...). لا نجد كلمة "العقل" ترد كمصدر صريح أو اسم لملكة مجردة منفصلة عن وظيفتها. هذا التركيز المستمر على "الفعل" يشير بوضوح إلى أن العقل في المنظور القرآني ليس كيانًا جامدًا أو وعاءً سلبيًا، بل هو عملية نشطة، وظيفة حيوية، وممارسة فكرية وروحية مستمرة يقوم بها الإنسان لفهم مراد الله، وإدراك آياته في الكون والأنفس، والتفاعل مع الوجود بوعي ومسؤولية.
"اعتقال المعاني": فهم قرآني وتراثي لوظيفة العقل
إذا كان العقل فعلاً ونشاطًا، فما هو جوهر هذا النشاط؟ كما ألمحنا سابقًا، واستلهامًا من الدلالة اللغوية لكلمة "عقل" (الربط والضبط والمنع)، ومن فهم نصوص تراثية عميقة، يمكن القول بأن وظيفة العقل الجوهرية هي "اعتقال المعاني". وقد أجاد الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان هذا المعنى في كتابه "مفتاح دار السعادة" حين عرف العقل بأنه "ضبط ما وصل إلى القلب وإمساكه حتى لا يتفلت منه"، مشبهًا ذلك بـ "عقل البعير" لمنعه من الشرود.
- الضبط والإمساك: فالعقل هو الذي يضبط سيل المعلومات والتجارب والمعاني المتدفقة ويمسك بجوهرها، يربط بينها، ويحولها من مجرد علم أو معرفة سطحية إلى فهم منظم وراسخ. ولهذا يؤكد ابن القيم أن "عقل الشيء أخص من علمه ومعرفته"، فالعاقل هو من يمسك بما علمه فلا يدعه يذهب.
- التمييز والحَجْر: والعقل بهذا المعنى (ضبط المعاني الصحيحة وتمييزها) هو الذي "يعقل" صاحبه ويحجره عن اتباع الهوى والوقوع في الغي والهلاك، لأنه يمكنه من التمييز بين الحق والباطل بناءً على ما "اعتقله" من معانٍ هادية.
- قمة الإدراك : يضع ابن القيم "العقل" في أعلى مراتب الإدراك بعد الشعور والفهم والمعرفة والعلم، لأنه يمثل مرحلة الضبط والإمساك الواعي والعميق للمعرفة.
مصادر المعاني التي "يعتقلها" العقل : تكامل الكون والوحي والتراث الإنساني
من أين تأتي هذه المعاني التي يقوم العقل بـ "اعتقالها" وضبطها؟ المنظور القرآني يؤكد على مصدرين أساسيين متكاملين، مع انفتاح على الحكمة الإنسانية :
- الكون المنظور (آيات الآفاق والأنفس): القرآن مليء بالدعوات للنظر والتفكر والتدبر في هذا "الكتاب المفتوح" الذي بث الله فيه آياته ومعانيه الدالة على قدرته وحكمته وسننه. العقل مدعو لـ "اعتقال" هذه المعاني الكونية من خلال الملاحظة والتجربة والتفكر والاستدلال.
- الوحي المقروء (آيات الكتاب المسطور): مع أهمية النظر في الكون، يؤكد القرآن أن العقل البشري وحده قاصر عن إدراك كل الحقائق، خاصة الغيب المطلق وحقائق الألوهية وتفاصيل الهداية. هنا يأتي دور الوحي كمصدر مباشر وأساسي للمعاني الهادية. يتلقى العقل هذه المعاني من الوحي ثم يتدبرها فيعقل معانيها ويكون بها المفاهيم التي تشكل رؤيته وقيمه.
- (التراث الإنساني المستنير) : العقل المسلم الحق هو الذي يتفاعل بجدية مع كلا المصدرين الأساسيين (الكون والوحي)، ساعيًا لـ "اعتقال المعاني" منهما معًا، ومستفيدًا في الوقت ذاته من الحكمة والتجارب المتراكمة في التراث الإنساني والعلوم المكتسبة بعد عرضها على ميزان الوحي، جاعلاً الوحي هو المهيمن والمرشد في بناء شبكته المفاهيمية ومنظومته القيمية.
هيمنة الوحي وتوجيه العقل :
في هذا الإطار، لا يُنظر إلى الوحي كمناقض للعقل أو كمعطل له، بل كـ مرشد وموجه ومُكمّل ومُهيمن عليه بالحق. فالوحي:
- يوقظ الفطرة : ينبه العقل الفطري إلى الحقائق الأساسية.
- يقدم المعايير: يعطي العقل الموازين والمعايير الصحيحة (المفاهيم الحاكمة).
- يصحح المسار: ينقذ العقل من الوقوع في الضلال أو اتباع الهوى.
- يزود بالمعاني السامية : يفتح للعقل آفاقًا من المعاني والقيم التي تسمو به.
فالعقل الذي يسعى للرشد والكمال هو الذي يجمع بين الاستنارة بالوحي، والتفكر في الكون، والاستفادة من الحكمة الإنسانية، تحت هيمنة المعيار الإلهي.
خاتمة : نحو عقل "يعقل" عن الله
إن المنظور القرآني للعقل يقدم لنا رؤية ديناميكية ووظيفية تتجاوز النظرة إليه كمجرد أداة تحليلية باردة. إنه "فعل" مستمر لـ "اعتقال المعاني" الهادية من مصادرها الكونية والشرعية والإنسانية المستنيرة، وهو فعل لا يكتمل ولا يرشد إلا بهداية الوحي وتأييد الله. العقل الذي يحتفي به القرآن ويمدحه هو العقل الذي يستخدم قدرته على "الاعتقال" والضبط والتمييز ليفهم عن الله مراده، وليعقل صاحبه عن كل ما يبعده عن طريق الاستقامة والسعادة الحقيقية.
في المقال التالي، سنتعمق أكثر في هذا المنظور القرآني، لنرى كيف تتجلى هذه المعاني والمفاهيم المستمدة من الوحي في بناء القيم وتوجيه السلوك، مع التركيز على قوة السرد القرآني ودلالات أسماء الله الحسنى.
حسان الحميني