مقدمة: ما وراء الحرف - الغوص في بحر المعاني القرآنية
في المقال السابق، استكشفنا رؤية القرآن للعقل كفعل نشط لـ "اعتقال المعاني" من مصدري الكون والوحي، مع هيمنة الوحي كمرشد ومعيار. لكن كيف يقدم الوحي القرآني نفسه هذه المعاني؟ هل يقتصر على الأوامر والنواهي المباشرة، أو التقريرات العقدية المجردة؟ أم أن هناك أساليب أخرى أعمق تأثيرًا وأكثر ثراءً في بناء المفاهيم وتشكيل الوجدان وتأسيس القيم؟
إن المتدبر للقرآن الكريم يجد أنه يستخدم أساليب متنوعة وغنية لإيصال رسالته وتشكيل وعي متلقيه. هذا المقال، وهو الجزء الثاني من استكشافنا للمنظور القرآني، سيركز على أسلوبين بارزين لهما دور محوري في بناء المفاهيم والقيم: قوة السرد القصصي، وعمق المعاني المتضمنة في أسماء الله الحسنى وصفاته العليا. هذان الأسلوبان يمثلان ينابيع فياضة للمعاني التي تغذي العقل والقلب معًا، وتساهم بشكل فريد في "هندسة" الشخصية المسلمة المتكاملة.
1. السرد القرآني: مدرسة المفاهيم والقيم الحية
يحتل القصص القرآني مساحة واسعة من كتاب الله، وهو ليس مجرد سرد تاريخي لأحداث الماضي، بل هو "مدرسة تربوية" متكاملة تقدم المفاهيم والقيم والمعاني مجسدة في تجارب حية وشخصيات واقعية وصراعات إنسانية عميقة. كيف يساهم السرد القرآني في بناء المفاهيم؟
تجسيد المفاهيم المجردة: القصص يحول المفاهيم المجردة (كالإيمان، الكفر، الصبر، التوكل، الظلم، الاستكبار، عواقب المعصية...) إلى صور حية ومشاهد مؤثرة وشخصيات تتفاعل، مما يجعل "اعتقال" معانيها أسهل وأعمق وأكثر تأثيرًا في الوجدان. فهم معنى "الصبر" من خلال قصة أيوب عليه السلام أبلغ من ألف تعريف نظري.
تقديم النماذج والقدوات (والعبر): يقدم لنا القصص نماذج إيجابية (الأنبياء والصالحون) تمثل تجسيدًا للمفاهيم والقيم العليا، ونماذج سلبية (الطغاة والمكذبون) تمثل تجسيدًا للانحراف المفاهيمي والقيمي. التعلم من هذه النماذج (اقتداءً أو اعتبارًا) هو وسيلة فعالة لبناء أو تصحيح المفاهيم.
كشف السنن الإلهية: من خلال تتبع مصائر الأفراد والأمم في القصص، "يعتقل" العقل السنن الإلهية الثابتة في التعامل مع الطاعة والمعصية، والإصلاح والإفساد، والهدى والضلال. هذه السنن هي مفاهيم كلية تحكم حركة التاريخ والمجتمع.
بناء التصورات عن الكون والحياة والصراع : القصص يشكل تصوراتنا عن طبيعة الحياة الدنيا كدار ابتلاء، وعن حتمية الصراع بين الحق والباطل، وعن أهمية الثبات على المبدأ، وعن العاقبة النهائية للمتقين والمجرمين.
التأثير الوجداني العميق: للسرد قوة تأثير هائلة على المشاعر والوجدان، مما يجعل المفاهيم المستخلصة منه أكثر رسوخًا وقوة دافعة للسلوك. (وهذا يربط بين النظام المفاهيمي والوجداني).
والمنهج التربوي المعتمد على السرد لتشكيل الهوية، والذي لفت النظر إلى أهميته وفاعليته لدى الآخرين باحثون مدققون مثل الدكتور محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله في ترجمته وتعليقه على كتاب "كيف يُرَبِّي يهود الولايات المتحدة أولادَهُم" مشيرًا لقوة القصص التراثي في تشكيل وعيهم وهويتهم، يجد هذا المنهج أصله وتطبيقه الأسمى في السرد القرآني. فبتدبر قصص القرآن، لا نحصل على معلومات تاريخية فقط، بل نبني منظومتنا المفاهيمية والقيمية على أسس راسخة ومؤثرة.
2. أسماء الله الحسنى وصفاته العليا: ينابيع القيم والمفاهيم الراشدة
المصدر الثاني العميق للمعاني والمفاهيم في القرآن هو ما يكشفه لنا عن ذات الله العلية من خلال أسمائه الحسنى وصفاته الكاملة. هذا الجانب له دور تأسيسي في بناء المفاهيم، خاصة القيمية والأخلاقية، كما أشار لذلك مفكرون معاصرون مثل الدكتور طه عبد الرحمن.
المثل الأعلى المطلق : أسماء الله وصفاته (العليم، الحكيم، الرحمن، الرحيم، العدل، الحق، السلام، المؤمن، المهيمن...) تمثل الكمال المطلق في كل صفة. معرفة هذه الأسماء والصفات تقدم للعقل البشري المثل الأعلى والمعيار المطلق الذي يتوجه إليه ويسعى للتحلي بمقتضياته (بقدر ما يليق بالمخلوق).
تأسيس القيم الأخلاقية: القيم الإسلامية العليا ليست مجرد أوامر اعتباطية، بل هي انعكاس وتجلٍ لمعاني هذه الأسماء والصفات. فنحن نسعى للعدل استلهامًا من اسم الله "العدل"، ونسعى للرحمة استلهامًا من "الرحمن الرحيم"، ونسعى للحكمة استلهامًا من "الحكيم". "اعتقال" معاني الأسماء الحسنى هو المنبع الأساسي لتكوين المفاهيم القيمية الراشدة.
فهم أعمق للكون والتشريع : معرفة صفات الله (كالعلم والحكمة والرحمة والعدل) تساعدنا على فهم أعمق لسننه في الكون، ولحكمته في تشريعاته، ولغايته من الخلق والأمر. إنها مفاتيح لفهم "لماذا" وراء الأشياء.
تحقيق العبودية والتزكية : تدبر الأسماء والصفات يغذي الإيمان والمحبة والتعظيم والخوف والرجاء في القلب، ويوجه السلوك نحو تحقيق العبودية الخالصة لله، وهو جوهر التزكية والارتقاء الروحي. إنه يربط النظام المفاهيمي بالوجداني وبالسلوكي في علاقة متكاملة مع الله.
إن "اعتقال" المعاني السامية من أسماء الله وصفاته هو أسمى ما يمكن أن يرتقي إليه العقل المسلم، لأنه يربطه مباشرة بمصدر كل كمال وخير وهداية.
خاتمة: القرآن بحر لا تنقضي عجائبه
إن القرآن الكريم ليس مجرد كتاب أحكام وتشريعات، بل هو بحر زاخر بالمعاني والمفاهيم والقيم التي تشكل الإنسان والمجتمع. أسلوبه السردي الفريد، وما يكشفه عن أسماء الله وصفاته، يمثلان مصدرين لا ينضبان لـ "اعتقال المعاني" الحية والراشدة. فالمسلم الذي يتفاعل مع القرآن تدبرًا وتفكرًا وتعقلاً، يجد فيه ليس فقط هداية لسلوكه الظاهر، بل بناءً متكاملاً لشبكته المفاهيمية، وتزكية لوجدانه، وتصحيحًا لتصوراته، وترسيخًا لقيمه، مما يؤهله للوصول إلى مرتبة "العقل المؤيد" المستنير بنور الوحي.
في المقالات التالية، سننتقل إلى استعراض الأدوار المختلفة (الداعية، المربي، المصلح) وكيف يمكنهم الاستفادة من هذا الفهم العميق للمفاهيم ومصادرها في أداء رسالتهم بفعالية أكبر.
حسان الحميني