استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

حينَ يبدأُ عُمرانُ الأرضِ مِنْ لُقمةٍ حلالٍ وعهدٍ مُصان

مقدمة: "دفتَرُ تحمُّلاتِ" الأُمّةِ المسلمة

تُعَدُّ سورةُ المائدةِ، بما حَوَتْهُ مِنْ تشريعاتٍ وأحكامٍ وتوجيهات، بمثابةِ "دفتَرِ تحمُّلاتٍ" شامِلٍ يُنظِّمُ حياةَ الفردِ والمُجتمَعِ المُسلِم، ويَرسِمُ لهُ معالِمَ الطريقِ نحوَ تحقيقِ مَرضاةِ اللهِ وعِمارةِ الأرضِ بالحَقِّ والعدل. ويأتي في مُستهَلِّ هذا "الدفتَرِ" الربّانيِّ أمرٌ جامِعٌ ومِحوريٌّ يُؤسِّسُ لكُلِّ ما بعدَهُ مِنْ التزامات، ألا وهو قولُهُ تعالى: ﴿(يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِۖ  أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ اُ۬لَانْعَٰمِ إِلَّا مَا يُتْل۪يٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّے اِ۬لصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌۖ اِنَّ اَ۬للَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُۖ) (المائدة: 1).
 فما هي أبعادُ هذا الأمرِ الإلهيِّ بالوفاءِ بالعُقود؟ وكيفَ يرتبِطُ بما جاءَ بعدَهُ مُباشرةً مِنْ بيانٍ لأحكامِ الأطعِمةِ وحِلِّيّتِها؟ وما هي دلالاتُ ذلكَ للناهِضِ الذي يسعى لبناءِ مُجتمَعٍ قائِمٍ على أُسُسٍ راسِخةٍ مِنَ الثِقةِ والمسؤولية؟

شُموليةُ "العُقودِ": مِنْ عَهْدِ اللهِ إلى عُقودِ الناس

إنَّ كلمةَ "العُقودِ" في الآيةِ الكريمةِ ليستْ مُقتصِرةً على المُعاملاتِ التجاريةِ أو الاتّفاقيّاتِ المَكتوبةِ فحسب، بل هي، كما أوضحَ المُفسِّرونَ، ذاتُ معنىً شامِلٍ وواسِع. فالإمامُ ابنُ عطيّةَ رحمهُ اللهُ يرى أنَّ الأصوَبَ هو "أنْ تُعمَّمَ ألفاظُها بغايةِ ما تتناوَل... ويُعمَّمَ لفظُ العُقودِ في كُلِّ رَبْطٍ بقولٍ مُوافِقٍ للحَقِّ والشرع". ويُؤكِّدُ الإمامُ ابنُ العربيِّ رحمهُ اللهُ هذا الشُمولَ بقولِهِ إنَّ الأمرَ بالوفاءِ بالعُقودِ هو "قولٌ مُطلَقٌ" يشمَلُ "كُلَّ عَهْدٍ للهِ سُبحانَهُ أعلمَنا بهِ ابتداءً، والتزَمْناهُ نحنُ لهُ، وتعاقَدْنا فيهِ بينَنا".
فهذهِ العُقودُ تشمَلُ:
  • العَهدَ الأعظَمَ معَ اللهِ تعالى: وهو عَهدُ الإيمانِ والعُبوديةِ والالتزامِ بشرعِه.
  • العُقودَ والمواثيقَ التي يأخُذُها اللهُ على عِبادِه: كالتِزامِ أوامِرِهِ واجتنابِ نواهيه.
  • العُقودَ التي يتعاقَدُ عليها الناسُ فيما بينَهم: مِنْ بيعٍ وشِراءٍ وزواجٍ وشراكةٍ وكُلِّ ما يَدخُلُ في دائرةِ المُعاملاتِ المشروعة.

الوَفاءُ بالعُقودِ وحِلِّيّةُ الطعام: علاقةٌ وثيقة

يأتي بعدَ الأمرِ بالوفاءِ بالعُقودِ مُباشرةً قولُهُ تعالى: ﴿...أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۗ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾. وقدْ لفتَ المُفسِّرونَ الأنظارَ إلى حِكمةِ هذا الترتيبِ ودَلالتِه.
فالإمامُ البِقاعيُّ رحمهُ اللهُ يرى أنَّ ذِكرَ إحلالِ بهيمةِ الأنعامِ يأتي "على سبيلِ التعليلِ" للأمرِ بالوفاء، أيْ: أوفوا لأنّهُ أحَلَّ لكُمْ ما حرّمَ على مَنْ قبلكُمْ (بسببِ نَقضِهِمُ العُهود)، وهذا الإحلالُ هو "لُطفًا بكُمْ ورحمةً لكُمْ... فاحذَروا أنْ تَنقُضوا كما نَقَضوا، فيُحرَّمَ عليكُمْ ما حُرِّمَ عليهِم".
فالالتزامُ بأحكامِ الحلالِ والحرامِ في الأطعِمةِ هو جُزءٌ لا يتجزّأُ مِنْ "الوفاءِ بالعَقدِ معَ اللهِ"، وهو دليلٌ على صِدقِ الإيمانِ والانقيادِ لِشرعِه.

"حَلالُ اللُّقمةِ".. قِوامُ الفردِ والاقتصادِ والمُجتمَع

إنَّ "حَلالَ اللُّقمةِ" ليسَ مُجرّدَ مسألةٍ فرديةٍ تتعلّقُ بالطهارةِ الشخصية، بل لهُ أبعادٌ أعمَقُ وأشمَل. فالحديثُ النبويُّ الشريفُ يُحذِّرُ مِنَ الرجُلِ الذي "مَطعَمُهُ حرامٌ، ومَشرَبُهُ حرامٌ، ومَلبَسُهُ حرامٌ، وغُذِيَ بالحرامِ، فأنّى يُستجابُ لذلك؟" (رواه مسلم). فهذا يُؤكِّدُ أنَّ أكلَ الحرامِ يُفسِدُ الباطِنَ والظاهِر، ويَمنعُ قَبولَ العَمَلِ والدُعاء، ويُضعِفُ القُدرةَ على الوفاءِ بالالتزامات.
ومِنْ ناحيةٍ أُخرى، فإنَّ "الأَكْلةَ قِوامُ الاقتصادِ كُلِّه". فاللُّقمةُ التي نصِلُ إليها هي نِتاجُ "سلسلةِ قِيَمٍ" طويلةٍ ومُتشابِكةٍ مِنَ الإنتاجِ والحركةِ والعَمَل، تحكُمُها "كَمٌّ هائِلٌ مِنَ العُقودِ والالتزاماتِ والتحمُّلاتِ الضروريةِ للانسيابيةِ في مساراتِها". فالحِرصُ على "حَلالِ اللُّقمةِ" مِنْ قِبَلِ الفردِ والمُجتمَعِ هو في حقيقتِهِ حِرصٌ على "حَلالِ اقتصادِ المُجتمَعِ" كُلِّه، وعلى نزاهةِ هذهِ السِلسلةِ مِنْ أيِّ غِشٍّ أو ظُلمٍ أو فساد.

"صِبغةُ اللهِ".. هيئةٌ تظهَرُ بالمُشاهَدة

إنَّ الالتزامَ بالوفاءِ بالعُقودِ، وبأحكامِ الحلالِ والحرام، وبكُلِّ ما أمرَ اللهُ به، هو الذي يُشكِّلُ "صِبغةَ اللهِ" في المُؤمِنِ والمُجتمَعِ المُسلِم. وهذهِ الصِبغةُ، كما أوضحَ الإمامُ الماورديُّ رحمهُ الله، سُمِّيَتْ كذلكَ "لظُهورِها على صاحِبِها، كظُهورِ الصِّبْغِ عَلَى الثوبِ". ويُوافِقُهُ الشيخُ الطوسيُّ رحمهُ اللهُ نقلًا عن الجُبّائي بأنّها "هيئةٌ تظهَرُ بالمُشاهَدةِ مِنْ أثَرِ الطهارةِ والصلاةِ وغيرِ ذلكَ مِنَ الآثارِ الجميلةِ التي هي كالصِبغة". فالإيمانُ الحقيقيُّ والوفاءُ الصادِقُ لا بُدَّ أنْ يترُكا أثرًا ظاهِرًا في سُلوكِ الفردِ وفي هيئةِ المُجتمَع.

خُلاصةٌ للناهِض: مَبادِئُ "دفتَرِ التحمُّلاتِ" الربّاني

إنَّ الآيةَ الأُولى مِنْ سورةِ المائِدة، بما هي مُفتتحٌ لـ"دفتَرِ تحمُّلاتِ" الأُمّة، تُقدِّمُ للناهِضِ والمُصلِحِ أُسُسًا راسِخةً لِبناءِ مُجتمَعٍ قائِمٍ على الالتزامِ والمسؤولية:
الوَفاءُ بالعُقودِ مَبدأٌ شامِل: يشملُ عَهدَكَ معَ اللهِ وعُقودَكَ معَ الناس.
حِلِّيّةُ المَطعَمِ جُزءٌ مِنْ هذا الوَفاء: وهو أساسٌ لصلاحِ الفردِ وسلامةِ الاقتصاد.
"سلسلةُ القِيَمِ" تحتاجُ إلى عُقودٍ والتزاماتٍ نزيهة: لتحقيقِ الانسيابيةِ والبركة.
التسليمُ لِحُكمِ اللهِ المُطلَق: فـ*﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾*، وعلينا السمعُ والطاعةُ والتسليم.
السعيُ لِتطبيقِ "صِبغةِ اللهِ": لتظهَرَ آثارُ الإيمانِ والالتزامِ في واقِعِنا الفرديِّ والجماعي.
خاتِمة:
إنَّ عِمارةَ الأرضِ وتحقيقَ النهضةِ يبدآنِ مِنْ التزامِ الفردِ والمُجتمَعِ بـ"عُقودِهِما" معَ اللهِ ومعَ الخَلق. والوفاءُ بهذهِ العُقودِ، بدءًا مِنْ "حِلِّيّةِ اللُّقمةِ" وانتهاءً بتحقيقِ العدلِ والرحمةِ في كُلِّ المُعاملات، هو الطريقُ لبناءِ مُجتمَعٍ قويٍّ أمين، مُتَحلٍّ بِصِبغةِ اللهِ التي لا أحسنَ مِنها صِبغة.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.