استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

منظومة الأمان: كيف يبني الناهض مجتمعه على أساس الإيمان والأمانة؟


في سعي أي ناهض لبناء مجتمع صالح ومستقر، يبرز سؤال جوهري: ما هو الأساس الذي لا يقوم صرح العمران إلا به؟ يقدم لنا القرآن الكريم، عبر ترابط لغوي ومفاهيمي عميق، الإجابة في منظومة ثلاثية متكاملة تنبع كلها من جذر واحد هو (أ-م-ن): الإيمان، والأمانة، والأمان. هذه المنظومة ليست مجرد مفاهيم متجاورة، بل هي معادلة حتمية: فالإيمان الراسخ في القلب، لا بد أن يثمر سلوك الأمانة في الواقع، وكلاهما معًا ينتج مجتمع الأمان المنشود.
وتأتي آية من سورة المعارج لتضع "الأمانة" في مكانها الصحيح، ليس كفضيلة هامشية، بل كصفة تأسيسية في هوية المؤمنين الناجحين، فيقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ (المعارج: 32).
"الراعون": من الأداء التعاقدي إلى الروح الائتمانية
لم تختر الآية لفظًا عاديًا كـ "مؤدّون"، بل اختارت كلمة "رَاعُونَ"، وهي كلمة تحمل في طياتها منهج عمل متكامل. فالرعاية، كما فهمها المفسرون، ليست مجرد أداء لحظي للأمانة، بل هي عملية مستمرة من المراقبة، والحفظ، والتعاهد. إنها تعبر عن حالة من اليقظة الدائمة تجاه المسؤوليات.
وهذا ما ينقلنا من "النموذج التعاقدي" البارد القائم على أداء الحد الأدنى من الواجب، إلى "النموذج الائتماني" الدافئ الذي يؤسس له الفكر الإسلامي. فالناهض الحقيقي لا يرى علاقته بمجتمعه كـ "عقد" قانوني، بل كـ "أمانة" و"ائتمان" من الله. هو ليس موظفًا، بل هو "راعٍ" مؤتمن، يسهر على حماية الأمانة وتنميتها، لا مجرد تسليمها.
منبع الأمانات: العهد الأول والمسؤولية الكونية
إن صيغة الجمع "لِأَمَانَاتِهِمْ" تشير إلى شموليتها، من أمانات الأموال والأسرار، إلى أمانة الدين نفسه، كما قال الحسن البصري: "الدين كله أمانة". ويرى أهل البصيرة، كالقشيري وسيد قطب، أن كل هذه الأمانات الجزئية "تنبثق" من منبعين أساسيين: أمانة الميثاق الأول في عالم الذر، وأمانة التكليف الكبرى التي حملها الإنسان. فمهمة الناهض، في جوهرها، هي تذكير الأمة بهاتين الأمانتين الكبريين، فإذا استقام الأصل، استقامت الفروع.
مقياس الإيمان وجزاء الوفاء
تتجلى خطورة التفريط في الأمانة في ربطها بأصل الإيمان نفسه، وأقوى ما في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له". فالأمانة هنا ليست من كماليات الإيمان، بل من أسسه.
أما عن جزاء هذه الرعاية، فيكشف الإمام ابن عاشور عن لفتة سياقية بديعة في سورة المعارج. فهو يربط بين صفة المؤمنين "الراعين" لعهودهم في الدنيا، وبين مشهد الكافر يوم القيامة الذي يود أن يفتدي نفسه بأهله وفصيلته، خائنًا بذلك كل عهود الدنيا. فيكون جزاء المؤمن على وفائه، أن الله يكفيه "خزي" هذا الموقف في الآخرة. فالأمانة التي رعيتها، هي سبب أمانك من الخزي الأعظم.
خاتمة : الناهض راعيًا
إن مشروع النهضة هو في حقيقته مشروع لبناء "مجتمع الراعين"، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بقيادة "ناهض راعٍ". راعٍ لأمانة الدين، وراعٍ لعهوده مع الناس، وراعٍ لموارد الأمة، وراعٍ لكل مسؤولية في عنقه. عندها فقط، يمكن بناء مجتمع تسوده "الثقة" التي هي أساس "الأمان"، فتكتمل بذلك "منظومة الأمان" الربانية.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.