مقدمة: فِقهُ التفاضُلِ.. سِرُّ الرُقيِّ والإحسان
إنَّ الحياةَ، في جوهرِها، هي مَسيرةٌ مِنْ "انتقالاتٍ" مُستمِرّةٍ بينَ أحوالٍ ودَرجاتٍ وأمكِنةٍ وأزمِنةٍ مُتفاوِتةِ القيمةِ والشأن. والوَعْيُ بهذا "التفاوُتِ" ومُمارَسةُ "التفاضُلِ" بينَ الخياراتِ والأعمالِ والأولويّات، هو ما يُميِّزُ الإنسانَ الرشيدَ ويَرسِمُ طريقَهُ نحوَ الإحسان. فهذا "الوعيُ بالتفاضُلِ" ليسَ مُجرّدَ حِكمةٍ نظرية، بل هو، كما قيلَ بحقّ، "فِقهُ العُمرانِ، وسِرُّ الترقّي والتفاوُتِ بينَ الأخيارِ في سُلَّمِ الإحسان". فكيفَ يُؤسِّسُ القُرآنُ الكريمُ لهذا الفِقهِ الحيوي، ويُصحِّحُ مَقاييسَنا في التفاضُلِ بينَ الأعمال، خاصّةً عندما تختلِطُ علينا المظاهِرُ البَرّاقةُ بحقائِقِ الإيمانِ وجواهِرِ الأعمال؟ إنَّ آيةً حاسِمةً مِنْ سورةِ التوبةِ تضَعُ لنا الميزانَ الدقيق.
ميزانُ التفاضُلِ الإلهي (التوبة: 19)
يقولُ الحقُّ تباركَ وتعالى، مُنكِرًا على مَنْ ساوى بينَ أعمالٍ ظاهِرةٍ وبينَ حقيقةِ الإيمانِ والجهاد:
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (التوبة: 19).
هذهِ الآيةُ، كما أوضحَ الإمامُ الطبريُّ رحمهُ الله، هي "توبيخٌ مِنَ اللهِ تعالى ذِكرُهُ لِقومٍ افتخَروا بالسِقايةِ وسِدانةِ البيت، فأعلَمَهُمْ جَلَّ ثناؤُهُ أنَّ الفَخْرَ في الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخِرِ والجهادِ في سبيلِهِ لا في الذي افتخَروا بهِ".
الإيمانُ والجهادُ.. الأساسُ الذي لا يُغني عنهُ شيء
تُقارِنُ الآيةُ الكريمةُ بينَ فريقين:
الفريقُ الأوّل: القائِمونَ على أعمالٍ جليلةٍ كـ"سِقايةِ الحاجِّ" و "عِمارةِ المسجِدِ الحرام". وهي أعمالٌ، كما يُشيرُ الإمامُ ابنُ عاشورٍ رحمهُ الله، كانتْ مِنْ أعظَمِ مَناصِبِ قُريشٍ ومَآثِرِها.
الفريقُ الثاني: مَنْ تحقّقَ فيهِ جوهرُ الدينِ وغايتُهُ: "آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
ثمَّ يأتي الحُكمُ الإلهيُّ القاطِع: ﴿لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ﴾. فالإيمانُ الصادِقُ باللهِ واليومِ الآخِر، وما يترتّبُ عليهِ مِنْ جِهادٍ (بمفهومِهِ الشامِل) لإعلاءِ كلمةِ اللهِ ونُصرةِ دينِه، هو الأساسُ الذي لا يُمكِنُ لأيِّ عَمَلٍ آخَرَ، مهما بَدا عَظيمًا في الظاهِر، أنْ يُساويهِ أو يُغنيَ عنهُ إذا لم يكُنْ قائِمًا عليه. وكما قالَ الإمامُ الطبري: "لأنَّ اللهَ تعالى لا يَقبَلُ بغيرِ الإيمانِ بهِ وباليومِ الآخِرِ عمَلًا".
الظُلمُ في المَفاهيمِ.. وحِرمانُ الهِداية
تختِمُ الآيةُ بقولِهِ تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. والظُلمُ هُنا، كما يُوضِّحُ المُفسِّرونَ، ليسَ مُقتصِرًا على الاعتداءِ على حُقوقِ الناس، بل يشمَلُ "وَضْعَ الأشياءِ في غيرِ مَواضِعِها"، كما قالَ الإمامُ البِقاعيُّ رحمهُ الله، "والكُفرُ أعظَمُ الظُلم". فالذينَ يُساوونَ بينَ أعمالِ البِرِّ الظاهِرةِ (مَعَ الشِركِ أو ضَعفِ الإيمان) وبينَ حقيقةِ الإيمانِ والجهاد، أو الذينَ يفتخِرونَ بتلكَ الأعمالِ وهُمْ مُعرِضونَ عن آياتِ الله، هُمْ "ظالِمونَ" في مَفاهيمِهِمْ ومَقاييسِهِم. ويُحذِّرُ الإمامُ البِقاعيُّ مِنْ أنَّ مَنْ يفعَلُ ذلكَ مِنَ المُؤمنينَ "كانَ ظالِمًا وخِيفَ عليهِ سَلْبُ مُوجِبِ الهِداية".
ويُشيرُ الإمامُ ابنُ عاشورٍ إلى أنَّ هذهِ الجُملةَ قدْ تكونُ تذييلًا أو اعتراضًا يُقصَدُ بهِ "زيادةُ التنويهِ بشأنِ الإيمان، إعلامًا بأنّهُ دليلٌ إلى الخيراتِ، وقائِدٌ إليها... فالذينَ آمَنوا قدْ هَداهُمْ إيمانُهُمْ إلى فضيلةِ الجِهاد، والذينَ كفَروا لم ينفَعْهُمْ ما كانوا فيهِ مِنْ عِمارةِ المسجِدِ الحرامِ وسِقايةِ الحاجِّ، فلم يَهْدِهِمُ اللهُ إلى الخير".
خُلاصةٌ للناهِض: فِقهُ الأولويّاتِ وميزانُ القَبول
إنَّ هذهِ الآيةَ الكريمةَ تُقدِّمُ للناهِضِ والمُصلِحِ أُسُسًا جوهريةً في "فِقهِ التفاضُلِ" بينَ الأعمالِ وفي ترتيبِ الأولويّات، وهو فِقهٌ أساسيٌّ لعِمارةِ الأرضِ على بصيرة:
الإيمانُ هو الأصلُ والأساس: لا قيمةَ لأيِّ عَمَلٍ أو مَشروعٍ، مهما بَدا عَظيمًا، إذا لم يكُنْ قائِمًا على إيمانٍ صحيحٍ باللهِ واليومِ الآخِر.
الجِهادُ (بمفهومِهِ الشامِل) ثمرةٌ للإيمانِ وبُرهانٌ على صِدقِه: وهو مِنْ أفضَلِ الأعمالِ التي تُقرِّبُ إلى الله.
لا تَغتَرَّ بالمظاهِرِ أو الأعمالِ الشكليّة: العِبرةُ بالجوهرِ والغايةِ وصِحّةِ المُنطلَق.
احذَرْ مِنَ "الظُلمِ" في المَفاهيمِ والمَقاييس: فلا تُساوِ بينَ ما فرّقَ اللهُ بينَهُ، ولا تُقدِّمِ الفُروعَ على الأُصول.
اجعلْ ميزانَكَ في التفاضُلِ هو ميزانَ الله: الذي يَرفَعُ شأنَ الإيمانِ والجهادِ ويجعلُهُما الأساسَ لكُلِّ خير.
اسعَ لِتَكونَ أعمالُكَ ومَشاريعُكَ "مِنْ شُعَبِ الإيمانِ": مُنطلِقةً مِنهُ، ومُوجَّهةً لِخِدمتِهِ، ومُؤطَّرةً بقِيَمِه.
خاتِمة: ميزانُ الإيمانِ في ساحةِ العُمرانِ والإحسان
إنَّ "الوعيَ بالانتقالِ مِنْ دَرجةٍ إلى أُخرى ومُمارَسةَ التفاضُلِ" بينَ الحَسَنِ والأحسَن، هو بحقٍّ "فِقهُ العُمرانِ وسِرُّ الترقّي والتفاوُتِ بينَ الأخيارِ في سُلَّمِ الإحسان". وآيةُ سورةِ التوبةِ تُقدِّمُ لنا مِعيارًا إلهيًّا دقيقًا لهذا التفاضُل، فتُوجِّهُ الناهِضَ إلى أنْ يَجعَلَ الإيمانَ الصادِقَ والجهادَ في سبيلِ اللهِ (بأبعادهِ الواسِعة) هُما الأساسَ الذي يَبني عليهِ كُلَّ "مَشاريعِهِ الصغيرةِ والكبيرةِ" في سَعيِهِ لعِمارةِ الأرض. فبِهذا الفِقهِ في الأولويّاتِ، وبهذا الميزانِ الربّاني، يستطيعُ الناهِضُ أنْ يُحوِّلَ كُلَّ اختلافٍ إلى إثراء، وأنْ يَبنيَ وَحدَةَ صفِّهِ على أساسِ الحَقِّ والتسليمِ لأمرِ الله، ليكونَ إيمانُهُ إيمانًا حقيقيًّا يُثمِرُ عَمَلًا صالِحًا وعُمرانًا راشِدًا ونهضةً مُبارَكة.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.