استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

حينَ يُثمِرُ الإيمانُ والعَمَلُ الصالِحُ مَحبّةً وقَبولاً ونَجاةً مِنَ الشقاء

مقدمة: بينَ الوَدِّ الإلهيِّ وشَقاءِ الإعراض

في رحلةِ الإنسانِ نحوَ تحقيقِ ذاتِهِ وبُلوغِ غاياتِهِ النبيلة، تتجلى ثُنائيةٌ أساسيةٌ تُشكِّلُ مِحورَ سَعيِهِ ومَصيرِه: ثُنائيةُ "الوَدِّ" و "الشقاء". فالنَّفْسُ البشريةُ بفِطرتِها تتوقُ إلى الوَدِّ والمَحبّةِ والأُلفةِ والسعادة، وتنفِرُ مِنَ الشقاءِ والألَمِ والخُسران. وإنَّ القُرآنَ الكريمَ، في خِتامِ سورةِ مريمَ ومَطلَعِ سورةِ طه، يُقدِّمُ لنا إطارًا بَديعًا لِفَهْمِ هذهِ الثُنائية، ويُبيِّنُ أنَّ "الوَدَّ" الحقيقيَّ هو كرامةٌ إلهيةٌ يُكسِبُها اللهُ لِمَنْ آمَنَ بهِ وعَمِلَ صالِحًا، وأنَّ هذا الوَدَّ هو السبيلُ للنجاةِ مِنْ "شقاءِ" الدُنيا والآخِرة.

الوَعْدُ الإلهيُّ بالوَدِّ للمُؤمنينَ الصالِحين (مريم: 96)

يقولُ الحقُّ تباركَ وتعالى، مُبشِّرًا عِبادَهُ المُؤمنينَ العامِلينَ للصالِحات:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا﴾ (مريم: 96).
هذهِ الآيةُ الكريمةُ تَحمِلُ وَعْدًا إلهيًّا صادِقًا بأنَّ اللهَ "الرَّحْمَٰنَ" سيَجعَلُ لِعِبادِهِ الذينَ جمَعوا بينَ الإيمانِ القَلبيِّ والعمَلِ الصالِحِ الظاهِري "وَدًّا". وهذا "الوَدُّ"، كما أوضحَ المُفسِّرونَ، ليسَ مُجرّدَ مَحبّةٍ عابِرة، بل هو مَفهومٌ شامِلٌ وعَميق.

يقولُ سيد قطبٍ رحمهُ اللهُ في وصْفِ هذا الوَدّ: "ولِلتعبيرِ بالوَدِّ في هذا الجَوِّ نَداوةٌ رَخِيّةٌ تمَسُّ القُلوب، ورُوحُ رِضًى يَلْمَسُ النُّفوس. وهو وَدٌّ يشيعُ في المَلأِ الأعلى، ثمَّ يَفيضُ على الأرضِ والناسِ فيمتَلِئُ بهِ الكَوْنُ كُلُّهُ ويَفيض...". فهوَ فيضٌ مِنْ مَحبّةِ اللهِ ورِضوانِهِ يَغمُرُ حياةَ المُؤمِن.

ويُفصِّلُ الإمامُ ابنُ باديسَ رحمهُ اللهُ هذا المعنى، فيُبيِّنُ أنَّ هذا الوَدَّ هو "جَعْلٌ مِنَ اللهِ لهُ في قُلوبِ العِبادِ لهُمْ، دونَ تردُّدٍ مِنهُمْ ولا توَقُّفٍ على تلكَ الأسبابِ [المُتعارَفةِ بينَ الناسِ كالقَرابةِ والصداقة]... فهذا نوعٌ مِنَ الوَدِّ خاصٌّ يُكرِمُهُمُ اللهُ بهِ، ويُنعِمُ عليهِمْ بهِ الرحمنُ". وهو وَدٌّ يشمَلُ القَبولَ في الأرضِ والمَحبّةَ في قُلوبِ الصالِحين.

مِنْ غُربةِ الحَقِّ إلى أُنْسِ الوَدِّ: بِشارةٌ وتثبيتٌ للناهِضين

لقدْ نزلتْ هذهِ الآيةُ، كما أشارَ الإمامُ ابنُ باديس، تأنيسًا للمُؤمنينَ الأوائِلِ الذينَ كانوا في مَكّةَ يُعانُونَ مِنَ البُغضِ والهَجْرِ والغُربةِ بسببِ إيمانِهِم. فجاءتْ كـ*"بِشارةٍ لهُمْ بأنَّ تلكَ الحالةَ لا تدوم، وأنّهُمْ سيكونُ لهُمْ على كلمةِ الحَقِّ مُؤيِّدونَ، وفي اللهِ مُحِبّونَ، وسيكونُ لهُمْ وَدٌّ في القُلوبِ"*. وهي أيضًا "تثبيتٌ لهُمْ في تلكَ الغُربةِ ووَحشةِ الانفرادِ بما يكونُ لهُمْ مِنْ أُنْسِ الوَدِّ، وأيُّ وَدٍّ هو!! وَدٌّ يكونُ مِنْ جَعْلِ الرحمن".
وهذا يُؤكِّدُ أنَّ طريقَ الدعوةِ والإصلاحِ، وإنْ كانَ مَحفوفًا بالمَشاقِّ والغُربةِ في بدايتِهِ، إلا أنَّ عاقِبتَهُ هي "الوَدُّ" والقبولُ والتمكينُ بإذنِ اللهِ لِمَنْ صَدَقَ وثبَت.

القُرآنُ.. ليسَ طريقًا للشَقاء (مطلع سورة طه)

إنَّ هذا الوَعْدَ بالوَدِّ للمُؤمنينَ الصالِحينَ في خِتامِ سورةِ مريمَ يُمهِّدُ بشكلٍ بَديعٍ لِمَطلَعِ سورةِ طه، الذي يَنفي أنْ يكونَ القُرآنُ (وهوَ طريقُ الإيمانِ والعَمَلِ الصالِح) سببًا للشَقاء. يقولُ تعالى: ﴿طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (3)﴾.
فكأنَّ اللهَ يُطمئِنُ نبيَّهُ ﷺ والمُؤمنينَ بأنَّ هذا القُرآنَ، وهذا المَنهجَ الذي يَدعو إليه، ليسَ طريقًا للشَقاءِ الحقيقي، بل هو طريقُ التذكرةِ والهِدايةِ والوَدِّ الإلهيِّ والسعادةِ الأبدية، وإنْ اقتضى ذلكَ بعضَ المُجاهَدةِ والتضحيةِ في الدُنيا.

خُلاصةٌ للناهِض: طريقُ "الوَدِّ" في مُواجَهةِ "الشَقاء"

تُقدِّمُ لنا هذهِ الآياتُ الكريمةُ دُروسًا جوهريةً لكُلِّ ناهِضٍ يسعى لِخِدمةِ دينِهِ وأُمَّتِه:

الإيمانُ والعَمَلُ الصالِحُ هُما مِفتاحُ "الوَدِّ" الإلهي: فاجعَلْهُما أساسَ حياتِكَ ومُنطلَقَ أعمالِك.

"وَدُّ الرحمنِ" كرامةٌ وقُوّة: فهوَ ليسَ مُجرّدَ مَحبّةٍ عاطِفية، بل هو "جَعْلٌ" إلهيٌّ يُلقي لكَ القَبولَ والتأثيرَ في القُلوب، ويُؤنِسُ وَحشتَكَ في طريقِ الحَق.

لا تيأسْ مِنْ غُربةِ البداياتِ أو مُعارَضةِ المُخالِفين: فوَعْدُ اللهِ بالوَدِّ والتمكينِ للمُؤمنينَ الصادِقينَ حَقٌّ لا يتخلّف.

طريقُ القُرآنِ ليسَ طريقَ شَقاء: بل هو طريقُ السعادةِ الحقيقيةِ والوَدِّ الأبَدي، وإنْ تخلّلَهُ بعضُ ابتلاءاتِ الدُنيا التي هي سُنّةُ اللهِ في تَمحيصِ عِبادِه.

اسعَ لِتَكونَ مِنْ أصحابِ القُلوبِ "النَدِيّةِ بالإيمانِ، المُتّصِلةِ بالرحمن" (بتعبيرِ سيد قطب)، التي لا تعرفُ القُنوطَ أو اليأسَ، بل تَستروحُ دائمًا رَوْحَ اللهِ وتَشعُرُ بِوُدِّه.

خاتِمة:

إنَّ "الوَدَّ" الذي يَجعَلُهُ الرحمنُ لِعِبادِهِ المُؤمنينَ العامِلينَ للصالِحاتِ هو أعظَمُ ما يُمكِنُ أنْ يطمحَ إليهِ إنسان. فهوَ يجمعُ بينَ مَحبّةِ الخالِقِ وقَبولِ الخَلق، وبينَ سَكينةِ القَلبِ في الدُنيا ونَعيمِ الآخِرة. والناهِضُ الذي يَسيرُ على هذا الدرب، مُتسلِّحًا بالإيمانِ والعَمَلِ الصالِح، مُستحضِرًا هذا الوَعْدَ الإلهيَّ بالوَدّ، هو الذي يستطيعُ أنْ يُواجِهَ كُلَّ "شَقاءٍ" دُنيويٍّ بثباتٍ ويقين، وأنْ يكونَ مَصدرَ "وَدٍّ" ورحمةٍ وخيرٍ لِمَنْ حولَه.


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.