في ظل ما تمر به أمتنا من نكبات واحتلالات وتآمر دولي وتخاذل عربي رسمي وشعبي، يقف كثير من الناس مشدوهين: ماذا نفعل؟ ما دورنا؟ هل نكتفي بالدعاء؟ بالمشاهدة؟ بالبكاء؟ هل نرضى بلعنة العجز والتكرار؟ أم أنه قد آن الأوان لأن ننقل الغضب إلى مشروع، والصرخة إلى بناء؟
فلا بد أن يكون في اذاهننا دائما ان الأمة ما زالت حية، وأن روحها لم تمت، لكنها تحتاج إلى من يوقظها، ويحول هذه الروح إلى نهضة حضارية شاملة في كل الميادين. فالنهضة ليست خيارًا كماليًّا، بل هي فريضة شرعية ومهمة استراتيجية ورسالة قرآنية.
أولًا: لماذا تأخرنا؟
لسنا بحاجة إلى كثير من التأمل لنعرف أن تأخرنا لم يكن صدفة، ولا قضاءً مفروضًا، بل نتيجة مباشرة لعدة أسباب:
• غياب الرؤية النهضوية الشاملة: معظم النخب تشتغل في قضايا جزئية أو ردود أفعال، دون مشروع متكامل يربط الدين بالواقع، والعقيدة بالتنمية، والجهاد بالتربية.
• التبعية الحضارية والفكرية: لقرون طويلة نُزعت الثقة من المسلمين في أنفسهم ودينهم، وتم اختزال الإسلام في الشعائر الفردية، بينما تُركت ميادين الاقتصاد والعلم والسياسة لفكر مستورد لا يملك روحًا ولا هوية.
• ثقافة العجز والتواكل: استبدلنا مبدأ "وأعدوا" بمقولة "ننتظر معجزة"، وتوهمنا أن النصر يأتي بدون إعداد، في حين أن الله لا ينصر المتواكلين، بل ينصر العاملين المجتهدين، ثم يتدخل بقدرته حين تستوفي الشروط.
• التشتت والتنازع: فرقتنا الطائفية، وشغلتنا الخصومات الداخلية، وغفلنا عن العدو الأكبر الذي يحتل الأرض وينهب الثروات ويفسد القيم.
ثانيًا: ما دورنا اليوم؟
ليس دورنا أن ننتظر القادة، ولا أن نلعب دور الجمهور المتفرج، بل المطلوب من كل فرد أن يتحول إلى خلية نهضة، إلى لبنة في بناء حضاري كبير، إلى حامل لمشروع يعيد للأمة دورها ومكانتها.
• دورنا أن نصنع الوعي: لأن الوعي هو مفتاح النهضة. نحتاج إلى وعي بالعدو الحقيقي، وعي بسنن الله في التغيير، وعي بتاريخنا ومقدراتنا، وعي بمكائد الداخل والخارج، وعي بفقه الأولويات.
• دورنا أن نُعد أنفسنا: لا يكون الإعداد فقط في السلاح، بل في النفس والعقل والمهارة. إعداد بالإيمان العميق، والعلم النافع، والاتقان في العمل، والتربية الأخلاقية الصلبة، والقدرة على التفكير الاستراتيجي.
• دورنا أن نُبدع في كل الميادين: لا نحتاج أن نحمل السلاح فقط، بل أن نحمل القلم، والكاميرا، والبرنامج، والمشروع، والفكرة، والاختراع، والخدمة. فكل ميدان هو ساحة معركة: التعليم، الإعلام، الاقتصاد، الصحة، الأسرة، الفن، الرياضة… كلها ساحات يمكن أن نحرر فيها الإنسان من التخلف والاستلاب والانهزام.
ثالثًا: كيف نُبدع؟
الإبداع يبدأ حين نكف عن تكرار الشكاوى، وحين نرى الألم وقودًا لا لعنة. نُبدع حين:
• نحوّل الانفعال إلى إنجاز: بدل أن نصرخ ونلعن، نُنشئ مشروعًا، مبادرة، ورشة، تطبيقًا، كتابًا، فيديو توعويًا، مؤسسة تخدم الأمة.
• نتخصص: فالتخصص قوة. من أراد خدمة الأمة يجب أن يتقن في مجاله، لا أن يسبح في العموميات. الطبيب، المهندس، الإعلامي، المعلم، كلٌّ يمكنه أن ينهض بالأمة من موقعه.
• نتعلّم بوعي: لا نطلب الشهادات فقط، بل نطلب العلم الذي يُثمر عملًا، ويمتد أثره في الناس. تعلم الأدوات الجديدة (الذكاء الاصطناعي، الإنتاج الإعلامي، ريادة الأعمال...) هو جزء من الجهاد الحضاري.
• نتعاون ونتكامل: وحدنا ضعفاء، مجتمعين أقوياء. لا بد من شبكات نهضوية تتعاون وتُنسق وتوزع الأدوار.
رابعًا: ما أهدافنا في هذا المشروع النهضوي؟
• إعادة بناء الإنسان المسلم: وعيًا، وإيمانًا، ومهارة، وكرامة، وإبداعًا.
• تحرير العقول قبل الأرض: فالعقل المستعبد لا يستطيع تحرير أرضه، ولا الدفاع عن دينه.
• بناء مشروع حضاري إسلامي عالمي: يتعامل مع العالم بنديّة، ويشارك في إنتاج المعرفة، ويرتقي بالإنسان، ويحمل الخير للناس جميعًا.
• نقل الرسالة عبر الكلمة والصورة والسلوك: لا نكتفي بالمواعظ، بل نُجسّد الإسلام سلوكًا راقيًا، ومشروعًا حيًّا، ومبادرةً فاعلة.
خامسًا: ما الأدوات المطلوبة؟
• الإيمان العميق برسالتنا: دون هذا الإيمان، سننهار عند أول صدمة.
• التخطيط الاستراتيجي: رؤية واضحة، أهداف ذكية، خطوات عملية.
• التمكين المعرفي والتقني: علوم العصر، لغات العالم، أدوات التأثير.
• الشبكات والتكتلات: لا ينهض الفرد وحده، بل الجماعة الواعية المنظّمة.
• الصبر والمثابرة: لأن النهضة مشروع أجيال، لا لحظة انفعال.
ختامًا:
الآلام اليوم تنير لنا الطريق: أنّ من يثبت على الحق، ويتوكل على الله، ويُبدع تحت النار، يستطيع أن يغيّر المعادلات. ولكن مسؤوليتنا أن نحمل الشعلة، لا أن نبكي فقط على من يحملها.
النهضة ليست حلمًا، بل مشروعًا، وواجبًا، وأمانةً، وجهادًا لا يُؤجّل. فلتكن كل أوجاعنا اليوم وقودًا لهذا المشروع، ولنعمل بما في أيدينا، ولنتقن عملنا، ولنُعدّ العدة. فحين نعمل بما نملك، تأتي معجزة الله. وحينها… ننتصر.
د.سامر الجنيدي_القدس