استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

مِنْ "سُلطانِ النَّفيرِ" إلى "سُلطانِ الإنجاز": القُرآنُ يَرسِمُ طريقَ النهضةِ المُتوازِنة

مقدمة: النَّفيرُ.. ليسَ غايةً بل وسيلة

في مسيرةِ الأُمَمِ نحوَ النهوضِ والتمكين، تبرُزُ "حالةُ النَّفيرِ" كطاقةٍ دافِعةٍ وحماسٍ مُتوقِّدٍ يَدفعُ أفرادَها للبذلِ والعطاءِ والتضحية. هذا "النَّفيرُ"، بمفهومِهِ كنهوضٍ حاسِمٍ يستنفِرُ جميعَ القُدرات، هو بلا شكٍّ شَرطٌ أساسيٌّ لكُلِّ تغييرٍ إيجابي. ولكن، هل "النَّفيرُ" غايةٌ في ذاتِه؟ أمْ أنّهُ مُجرّدُ وسيلةٍ ومرحلةٍ لا بُدَّ أنْ تُفضِيَ إلى ما هو أعمَقُ وأبقَى، ألا وهو "سُلطانُ الإنجازِ" الحقيقيِّ الذي يُترجِمُ الهِمَمَ إلى واقعٍ مَلموسٍ وأثَرٍ مُستدام؟ إنَّ القُرآنَ الكريم، في سورةِ التوبة، يُقدِّمُ لنا رؤيةً استراتيجيةً مُتوازِنةً لـ"إدارةِ النَّفيرِ" وتوجيهِهِ نحوَ الغاياتِ النبيلة.

القُرآنُ يُؤسِّسُ لـ"نَفيرٍ" رشيدٍ ومُتوازِن (التوبة: 123)

في خِضَمِّ آياتِ الحثِّ على الجِهادِ والتنديدِ بالمُقصِّرين، تأتي آيةٌ كريمةٌ لتضَعَ ضوابِطَ ومَعاييرَ لهذا "النَّفيرِ" العام، وتُوجِّهَ الأُمّةَ نحوَ تَخصُّصٍ وتكامُلٍ يُحقِّقُ مَصالِحَها العُليا. يقولُ الحقُّ تباركَ وتعالى:
﴿وَمَا كَانَ اَ۬لْمُومِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۖ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِے اِ۬لدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمُۥٓ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَۖ﴾ [123].

نَفْيُ حَتميّةِ النَّفيرِ العام: تُقَرِّرُ الآيةُ أوّلًا أنّهُ "مَا كَانَ المُؤمِنونَ لِيَنفِروا كافّةً"، أيْ ليسَ مطلوبًا أو مِنْ الحِكمةِ أنْ يخرُجَ جميعُ المُؤمنينَ لكُلِّ مُهمّةٍ عامّةٍ في كُلِّ وقت. هذا، كما أوضحَ الإمامُ ابنُ عاشورٍ رحمهُ الله، جاءَ ليُبيِّنَ أنَّ "ليسَ مِنْ المَصلَحةِ تمَحُّضُ المُسلِمينَ كُلِّهِمْ لأنْ يكونوا غُزاةً أو جُندًا"، وأنَّ هُناكَ واجِباتٍ أُخرى لا تقِلُّ أهميّة.

الحَثُّ على "نَفيرٍ خاصٍّ" للتفَقُّهِ في الدِين: ثمَّ يأتي التحضيضُ القويُّ ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ...﴾ ليُوجِّهَ إلى ضرورةِ أنْ "تنفِرَ مِنْ كُلِّ فِرقةٍ طائِفةٌ" (مَجموعةٌ مُختارَة) لِغايةٍ عُليا، وهي ﴿لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾.

"التفَقُّهُ في الدِين": النَّفيرُ نحوَ البصيرةِ والمَنهَج

إنَّ "التفَقُّهَ في الدِين" ليسَ مُجرّدَ عِلمٍ سطحيٍّ أو مَعرِفةٍ عامّة، بل هو، كما يُفصِّلُ الإمامُ ابنُ عاشور، "تكلُّفُ الفَقاهةِ، وهي مُشتَقّةٌ مِنْ فَقِهَ (بكسرِ القاف) إذا فهِمَ ما يدِقُّ فَهمُهُ... فالفِقهُ أخَصُّ مِنَ العِلم". إنّهُ الفَهمُ العَميقُ والدقيقُ لأحكامِ الدِينِ ومَقاصِدِهِ وحِكَمِه، وهو أمرٌ "دقيقُ المَسلَكِ لا يحصُلُ بسُهولة". ويُسمّي الشيخُ الشعراويُّ رحمهُ اللهُ هذا النَّفيرَ للتفَقُّهِ "جِهادَ البَحثِ في المَنهَجِ وتعلُّمِه"، بل يراهُ "نَفرةَ النَّفرةِ" لأنَّ الجِهادَ بالقِتالِ يتطلّبُ الدفاعَ عن المَنهَجِ الذي تعلّمَهُ هؤلاءِ المُتفَقِّهون. فهذا "التفَقُّهُ" هو الذي يُزوِّدُ الأُمّةَ بالبصيرةِ والمَنهَجِ اللازِميْنِ لِسَلامةِ مسيرتِها.

غايةُ النَّفيرِ الفِقهي: الإنذارُ والبَلاغُ وتحقيقُ الحَذَر

مُهمّةُ هذهِ "الطائِفةِ المُتفَقِّهةِ" لا تنتهي عندَ حُدودِ التحصيلِ العِلميِّ الذاتي، بل تمتدُّ لتشمَلَ مسؤوليةً أوسَع، وهي ﴿وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾. فالشيخُ مُحمّد حسين فضل الله رحمهُ اللهُ يُؤكِّدُ أنَّ هذهِ مُهمّةُ الفُقهاءِ الذينَ يحمِلونَ "في فِكرِهِمْ فِكرَ الأُمّةِ وثقافَتَها ودينَها، فلا يجوزُ لهُمْ أنْ يَمنَعوها مِنهُ، أو يحجُبوهُ عنها". بل إنَّ الأمرَ، كما يستوحي مِنْ الآية، لا يقتصِرُ على الجوابِ عندَ السؤال، بل "يتّسِعُ ليتسلّموا زِمامَ المُبادَرةِ في الإبلاغِ والإنذار"، لأنَّ الجهلَ قدْ يُؤدّي إلى الغفلةِ التي لا يشعُرُ الإنسانُ معها بالحاجةِ إلى السؤال. والغايةُ مِنْ هذا الإنذارِ هي أنْ يصِلَ القومُ إلى حالةِ "الحَذَرِ" والتقوى واليقظة.

مِنْ "النَّفيرِ الفِقهيِّ" إلى "سُلطانِ الإنجازِ" الحضاري

إنَّ هذا "النَّفيرَ المَنهجيَّ" للتفَقُّهِ في الدِين، وما يتبَعُهُ مِنْ إنذارٍ وبَلاغٍ وتوعية، هو الأساسُ الذي يُمكِّنُ الأُمّةَ مِنْ تحقيقِ "سُلطانِ الإنجازِ" الحقيقيِّ في مُختلَفِ مَيادينِ الحياة. فالفِقهُ العَميقُ والبصيرةُ النافِذةُ هُما اللذانِ يُرشِدانِ حركةَ المُجتمَع، ويُوجِّهانِ طاقاتِهِ نحوَ البناءِ والإصلاح. وكما نبّهَ الإمامُ ابنُ عاشور، فإنَّ "اتِّساعَ الفُتوحِ وبسالةَ الأُمّةِ لا يكفِيانِ لاستبقاءِ سُلطانِها إذا هي خلَتْ مِنْ جَماعةٍ صالِحةٍ مِنَ العُلماءِ والسّاسَةِ وأُولي الرأيِ المُهتمّينَ بتدبيرِ ذلكَ السُلطان".
فلا بُدَّ مِنْ تكامُلٍ بينَ "أهلِ الفِقهِ" الذينَ يُؤسِّسُونَ للمَنهَجِ ويُقدِّمونَ الرؤية، وبينَ "أهلِ المَيدانِ" الذينَ يُطبِّقونَ ويُنفِّذون. وقدْ يُشارُ هُنا إلى أهميّةِ أنْ يكونَ الفِقهُ نفسُهُ مُتصِلًا بالواقِعِ وتحدّياتِهِ، وأنْ يستفيدَ العالِمُ مِنْ مُعايَشةِ قضايا أُمّتِه، كما قدْ يُفهَمُ مِنْ بعضِ الاجتهاداتِ المُعاصِرة، فالعالم سجين الصومعة يحذر الأخذ عنه.

خُلاصةٌ للناهِض: النَّفيرُ المُنظَّمُ.. طريقُ الإنجازِ المُستدام

تُقدِّمُ لنا آيةُ سورةِ التوبةِ مَنهجًا قُرآنيًّا فريدًا في "إدارةِ النَّفيرِ" وتوجيهِ الطاقاتِ نحوَ ما هو أجدى وأنفع:
  • التوازُنُ والتخصُّصُ في النَّفير: ليسَ مطلوبًا مِنَ الجميعِ أنْ يفعلوا كُلَّ شيء، بل لا بُدَّ مِنْ تَخصُّصٍ وتقسيمٍ للأدوار.
  • أولويّةُ "التفَقُّهِ في الدِين": فهو الأساسُ لكُلِّ عَمَلٍ رشيدٍ وبناءٍ مُستقيم.
  • مسؤوليةُ "الإنذارِ" والبَلاغِ والمُبادَرةِ بالتوعية: فالعِلمُ أمانةٌ يجبُ أنْ تصِلَ إلى الأُمّة.
  • غايةُ الدَعوةِ تحقيقُ "الحَذَرِ" والتقوى في المُجتمَع.
  • التكامُلُ بينَ "جِهادِ العِلمِ" و "جِهادِ العَمَلِ": فكِلاهُما ضروريٌّ لِنَهضةِ الأُمّةِ وتحقيقِ "سُلطانِ الإنجازِ" الحقيقي.

خاتِمة:


إنَّ "النَّفيرَ" الذي لا يُؤسَّسُ على "فِقهٍ" عَميقٍ وبصيرةٍ نافِذة، قدْ يكونُ نَفيرًا عشوائيًّا أو مُتعجِّلًا لا يُحقِّقُ الغاياتِ المَرجوّة. وآيةُ التوبةِ تدعونا إلى "نَفيرٍ مَنهجيٍّ" يبدأُ بالتفَقُّهِ في الدِين، وينتهي بإنذارِ القومِ وتوعيتِهم، ليُصبِحَ المُجتمَعُ كُلُّهُ "ناهِضًا" على عِلمٍ وبصيرة، وقادِرًا على تحقيقِ "سُلطانِ إنجازٍ" حضاريٍّ شامِلٍ ومُستدام.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.