في أعقاب التحرّر من الاستبداد والقمع السياسي في سورية، أو فترات الحروب الأهلية في إسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية، تجد الدول نفسها أمام مفترق طرق حساس: كيف تحقّق العدالة لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان دون أن تعرّض السلم الأهلي والنسيج الاجتماعي -الهش- لمزيد من التمزّق والانقسام؟ هذا السؤال يعكس في الواقع السوري مدى أهمية التحدي الجوهري في مسار تحقيق العدالة الانتقالية، وهو المسار الذي تسلكه المجتمعات للانتقال من مرحلة العنف والانتهاكات؛ إلى مرحلة تحقيق السلام والمصالحة الوطنية.
لا بدَّ من فهم أن مطلب تحقيق العدالة الانتقالية؛ حق شرعي ولا يسقط بالتقادم!! فتحقيق العدالة الانتقالية لا يعني فقط محاكمة المسؤولين عن ارتكابهم جرائم حرب؛ بل تشمل أيضًا جبر الضرر، كشف الحقيقة، الإصلاح المؤسسي والقضائي، تجريم من ينكر جرائم النظام السابق وضمان عدم تكرار المجازر والانتهاكات، وهذا حقٌ للضحايا وواجبٌ على الدولة، أما التغاضي عن تحقيق جزء من العدالة الانتقالية تحت ذريعة الحفاظ على السلم الأهلي والنسيج المجتمعي؛ هو في الواقع تأجيل لأزمات أعمق قد تنفجر في المستقبل القريب، فالضحايا -الذين لم يُنصفوا- حتى الآن؛ يحملون جراحًا عميقة ومفتوحة، وإذا لم يجدوا اعترافًا وأملًا في الإنصاف؛ فإن شعورهم بالغُبن قد يتحول إلى نقمة حينها تهدّد أي استقرار هش.
السلم الأهلي والنسيج الاجتماعي: لا استقرار بدون مصالحة حقيقية
في المقابل، إن التركيز المفرط على المحاسبة دون مراعاة السياق الاجتماعي والسياسي؛ قد يعمّق الانقسامات الداخلية، خاصةً إذا تم النظر إلى العدالة الانتقالية كأداة انتقام سياسي!!
إن المجتمعات الخارجة من تحرّر أو نزاع؛ تكون في حالة غليان وتوتر ملحوظ، وتسودها مشاعر الخوف والريبة، ومن هنا، فإن مسار العدالة الانتقالية؛ يجب أن يُدار بحكمة، بحيث لا يُستغل لتصفية حسابات قديمة أو عمليات ثأر وانتقام؛ بل يُقدّم كجسر نحو مستقبل مشترك.
أين تكمن الموازنة بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي؟
المطلوب الآن ليس المفاضلة بين العدالة والسلم؛ بل الموازنة بينهما!!
لذلك يمكن أن تتحقّق العدالة الانتقالية دون أن تُهدم جسور التعايش السلمي، في سبيل أن تُرسم السياسات على أساس الشفافية، المشاركة المجتمعية والاعتماد على آليات غير انتقامية. حيث توجد تجارب مثل: جنوب أفريقية ورواندا تُظهر أن المصارحة والاعتراف بالحقيقة -حتى دون عقاب صارم في بعض الحالات-؛ قد تساهم في رأب الصدع المجتمعي وبناء الثقة من جديد!!
إن تحقيق العدالة الانتقالية والسلم الأهلي ليسا هدفين متعارضين؛ بقدر ما هما وجهان لعملة واحدة!! فالسلام بدون عدالة هش ومؤقت، والعدالة بدون سلام غير قابلة للتحقق. والتحدي الحقيقي يكمن في ابتكار مسارات ذكية وحسّاسة توفّق بين تطلعات الضحايا السوريين إلى الإنصاف، وحق المجتمع في الاستقرار والمصالحة، وهذه الموازنة الدقيقة؛ هي التي تُمهّد الطريق لبناء دولة يسودها العدل والقانون، وتعزّز الشعور بالانتماء.
19 يونيو 2025
✍🏻 الأغيد