استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

التفكُّر: ركيزةٌ للفردِ وسندٌ للجماعةِ في مسيرةِ العُمران

مقدمة: القُوّةُ الفِكريةُ.. مِنْ قَوْمَةِ الفِكرِ تبدأ

في مسيرةِ الأُمَمِ نحوَ النهوضِ والرُقي، وفي سعيِ الأفرادِ نحوَ الفاعليةِ والتأثير، تبرُزُ "القُوّةُ الفِكريةُ" كعُنصرٍ حاسِمٍ لا غِنى عنه. هذهِ القُوّةُ، التي تتجلّى في القُدرةِ على التحليلِ والنقدِ والإبداعِ والفَهمِ العَميق، لا تأتي مِنْ فراغ، بل هي تستنِدُ إلى "قَوْمَةٍ فِكريةٍ" واعيةٍ ومَقصودة. إنّها "قَوْمَةٌ" تخرُجُ بالإنسانِ مِنْ سُباتِ الغفلةِ وجُمودِ التقليد، إلى يقظةِ العقلِ ونشاطِ البصيرة. وهذه "القَوْمَةُ الفِكريةُ" لا تتحقّقُ إلا مِنْ خِلالِ تَربيةٍ فِكريةٍ جادّةٍ ومُستمِرّةٍ تُهذِّبُ العَقلَ وتُصقِلُ الفَهمَ وتُحرِّرُهُ مِنْ قيودِ الجَهلِ والتقليد. والقُرآنُ الكريم، في آيةٍ جامعةٍ مِنْ سورةِ سبأ، يُقدِّمُ لنا مَنهجًا فريدًا لهذهِ "القَوْمَةِ الفِكريةِ" التي هي ثمرةٌ لِتلكَ التربية، ويُبيِّنُ كيفَ أنَّ "التفكُّرَ" هو ركيزةٌ أساسيةٌ لصلاحِ الفرد، وسَنَدٌ قويٌّ لِرُشدِ الجماعة، وكِلاهُما ضروريٌّ لمسيرةِ العُمرانِ الحقيقي.

موعِظةٌ واحِدةٌ.. ومَنهجٌ للتفكُّرِ الرشيد (سبأ: 46)

يُوجِّهُ اللهُ تعالى نبيَّهُ الكريمَ صلى اللهُ عليهِ وسلم ليُقدِّمَ للناسِ موعِظةً واحِدةً جامعة، هي مِفتاحُ الهِدايةِ والفَهمِ الصحيح:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ (سبأ: 46).
هذهِ "الواحِدةُ" التي يُعِظُنا بها القُرآن، كما يُشيرُ صاحِبُ "التفسيرِ الأمثل"، هي "أصْلُ جميعِ الإصلاحاتِ الفرديةِ والجماعية، إنّما هي بإعمالِ الفِكر". وتتضمّنُ هذهِ الموعِظةُ أُسُسًا مَنهجيةً للتفكُّرِ المُثمِر:
"أَن تَقُومُوا لِلَّهِ" (الإخلاصُ والتجرُّدُ.. ركيزةُ التفكُّرِ الفردي وثمرةُ التربية):
إنَّ "القيامَ للهِ"، كما يُوضِّحُ الإمامُ البِقاعيُّ رحمهُ الله، يعني "أنْ تُوجِّهوا نُفوسَكُمْ إلى تَعرُّفِ الحَق، وعَبَّرَ بالقيامِ إشارةً إلى الاجتهاد... على وَجهِ الإخلاصِ واستحضارِ ما لهُ مِنَ العَظمةِ... لا لإرادةِ المُغالَبة". فهذا "القيامُ" ليسَ مُجرّدَ حركةٍ جسدية، بل هو "قَوْمَةٌ" قَلبيةٌ وفِكريةٌ تتجرّدُ فيها النَّفْسُ لله، وتَخلُصُ لهُ النيّة، وتستعِدُّ لتلقّي الحَق. هذا "القيامُ للهِ" هو ثمرةُ تَربيةٍ فِكريةٍ تُعلِّمُ الإخلاصَ والتجرُّد، وهو "الركيزةُ" التي لا بُدَّ أنْ ينطلِقَ مِنها "التفكُّرُ الفرديُّ" ليُؤتيَ أُكُلَهُ في زيادةِ البصيرةِ وتصحيحِ المَفاهيم.

"مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ" (التكامُلُ بينَ التفكُّرِ الفرديِّ والجماعيِّ بفضلِ التربيةِ الفِكرية):

تَدعو الآيةُ إلى أنْ يكونَ هذا "القيامُ للهِ" والتفكُّرُ الناتجُ عنهُ يتمُّ "مَثنى" (اثنينِ اثنين) و "فُرادى" (كُلُّ واحِدٍ بمُفرَدِه). ويُقدِّمُ الإمامُ ابنُ عطيّةَ رحمهُ اللهُ لفتةً بليغةً في تقديمِ "مَثنى"، فيرى أنَّ "الحَقائِقَ مِنْ مُتعاضِديْنِ في النظَرِ أجدى (أنفَعُ) مِنْ فِكرةٍ واحِدة، فإذا انقدَحَ الحَقُّ بينَ الاثنيْنِ فكَّرَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما بعدَ ذلكَ فيزيدُ بصيرة". فالنَّاسُ، كما يُشيرُ البِقاعي، مِنهُمْ "مَنْ وَثِقَ بنفسِهِ في رَصانةِ عقلِهِ وأصالةِ رأيِهِ قامَ وَحدَهُ ليكونَ أصفى لِسِرِّهِ، وأعونَ على خُلوصِ فِكرِه، ومَنْ خافَ عليها ضَمَّ إليهِ آخَرَ ليُذكِّرَهُ إنْ نَسِيَ ويُقوِّمَهُ إنْ زاغ".
فهُناكَ "تَكامُلٌ" بينَ "التفكُّرِ الفرديِّ" الذي هو "ركيزةٌ" أساسيةٌ لتنميةِ العقلِ وتزكيةِ النَّفْسِ (وهو ما تُعنى بهِ التربيةُ الفِكريةُ الذاتية)، وبينَ "التفكُّرِ الجَماعيِّ" الذي هو "سَنَدٌ" يُقوّي البصيرةَ ويُصحِّحُ المسارَ ويُثمِرُ حِكمةً أَعمَق. وهذا التفاعُلُ بينَ الفردِ والجماعةِ في التفكُّرِ، والذي تُنمّيهِ تَربيةٌ فِكريةٌ تُشجِّعُ على الحِوارِ والنقدِ البنّاء، هو ما يُؤسِّسُ لـ"عَقلٍ جَمعيٍّ" راشِدٍ للأُمّة.

"ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا" (غايةُ القيامِ.. وثمرةُ التجرُّدِ والتربية):

بعدَ "القيامِ للهِ" بإخلاصٍ وتجرُّد، فرديًا وجماعيًا، تأتي الدعوةُ الصريحةُ للتفكُّر. وكما يُنبِّهُ صاحِبُ "التفسيرِ الأمثل"، فإنَّ حَذْفَ مُتعلَّقِ "تتفَكّروا" يَدُلُّ على العُموم، أيْ "في كُلِّ شيء، في الحياةِ المَعنويةِ والمادّية، في الأُمورِ الكبيرةِ والصغيرة... وأهَمُّ مِنْ ذلكَ كُلِّهِ هو التفكُّرُ للعُثورِ على الإجابةِ للأسئِلةِ الوُجوديةِ الكُبرى". وإنْ كانَ السياقُ المُباشِرُ للآيةِ يَدعو للتفكُّرِ في حالِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلم ليَتبيّنوا أنّهُ ﴿مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾.

خُلاصةٌ للناهِض: التفكُّرُ.. مِنْ "قَوْمَةِ الفِكرِ" إلى "عُمرانِ الواقِع"

إنَّ هذهِ الآيةَ الكريمةَ مِنْ سورةِ سبأ تُقدِّمُ للناهِضِ والمُصلِحِ مَنهجًا عمليًّا لـ"تفعيلِ القُوّةِ الفِكريةِ" في نفسِهِ وفي مُجتمَعِه:
اهتَمَّ بالتربيةِ الفِكريةِ لنفسِكَ ولمَنْ حولَك: فهي الأساسُ لـ"القَوْمَةِ للهِ" ولـ"التفكُّرِ الرشيد". لا يُمكِنُ تَحرّي الرَّشَدِ بدونِ عُقولٍ مُدرَّبةٍ على التفكيرِ السليم.
ابدأْ بـ"القَوْمَةِ لله": اجعلْ إخلاصَ النيّةِ والتجرُّدَ للحَقِّ هُما مُنطلَقَ كُلِّ تفكُّرٍ وعَمَل.
وازِنْ بينَ "التفكُّرِ الفرديِّ" و "التفكُّرِ الجَماعي": فكِلاهُما ضروريٌّ لِنُضجِ الفِكرِ وصوابِ القرار.
اجعلِ "التفكُّرَ" عادةً راسِخةً وسُلوكًا دائِمًا: لا تكتَفِ بالآراءِ الجاهِزةِ أو "اللَّمَجِ الفِكريةِ" العابِرة.
لتَكُنْ غايتُكَ مِنَ التفكُّرِ الوصولَ إلى "الحَقِّ" و "الرَّشَدِ": وتصحيحَ المَفاهيمِ الخاطِئةِ، وفَهْمَ الواقِعِ وتحدّياتِه.
**اعلَمْ أنَّ "القُوّةَ الفِكريةَ" التي تستنِدُ إلى هذهِ "القَوْمَةِ الفِكريةِ" هي "رَكيزةٌ" أساسيةٌ لِقيامِكَ بدورِكَ الفردي، وهي "سَنَدٌ" لا غِنى عنهُ لِقيامِ "تَفكُّرٍ جَماعيٍّ" راشِدٍ يَقودُ الأُمّةَ نحوَ العُمرانِ والنهضة.

خاتِمة:

إنَّ "التفكُّرَ" الذي يَدعو إليهِ القُرآنُ ليسَ تَرَفًا فِكريًّا أو تأمُّلًا سلبيًّا مُنعزِلاً عن الحياة، بل هو "قَوْمَةٌ" واعيةٌ، و "عِبادةٌ" مُثمِرة، و "أداةٌ" فاعِلةٌ للتغييرِ والإصلاح. والناهِضُ الذي يُدرِكُ ذلك، ويَجعَلُ مِنْ "التفكُّرِ" (الفرديِّ والجماعيِّ) -المُنبثِقِ عَنْ تَربيةٍ فِكريةٍ أصيلة- ركيزةً لِفِكرِهِ وسَنَدًا لِعملِهِ، هو الذي يستطيعُ، بإذنِ الله، أنْ يُساهِمَ في بناءِ "عُمرانٍ" قائِمٍ على الحِكمةِ والبصيرةِ والرَّشَد.



كتب حسان الحميني.
 والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.