استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

مرتكزات المدافعة: كيف يواجه الناهض "جالوت" العصر في ضوء القرآن؟


لكل عصر "جالوته" الذي يمثل القوة المادية الغاشمة، و"فراعنته" الذين يمثلون الاستبداد والتضليل. وفي عصرنا، يتجسد "جالوت" في منظومة إفساد عالمية، تسعى لفرض هيمنتها بقوة السلاح والاقتصاد والإعلام. وفي مواجهة هذا الواقع، تبرز مسؤولية الناهضين في مدافعة هذا الفساد.

إن هذه المدافعة ليست رد فعل عشوائي، بل هي مشروع متكامل له مرتكزاته التي لا يقوم إلا بها. وقد رسم لنا القرآن الكريم معالم هذه المرتكزات في قصة طالوت وجالوت، التي تتوجها الآية الكريمة: ﴿...فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: 251). هذه الآية وما سبقها، تقدم قصة فئة مؤمنة قليلة واجهت قوة طاغية، وانتصرت عليها لا بكثرة عددها، بل بامتلاكها لمرتكزات النصر.

المرتكز الأول: امتلاك المشروع (الملك والتمكين)

إن مدافعة الباطل ليست غاية في ذاتها، بل هي وسيلة لإحلال الحق. لم تكن نهاية المعركة هي مجرد هزيمة جالوت، بل كانت بداية مرحلة جديدة من البناء والتمكين، تمثلت في قوله تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ...﴾. فالنصر أثمر "مُلكًا" ودولة. وهذا هو المرتكز الأول: على الناهض ألا يكتفي بنقد مشروع "الإفساد"، بل يجب أن يمتلك "مشروع إصلاح" واضح المعالم، ورؤية للدولة العادلة والمجتمع الصالح الذي يسعى لإقامته بعد أن يأذن الله بالنصر.

المرتكز الثاني: الحكمة (صمام أمان السلطة)

إن المُلك والسلطة سيف ذو حدين؛ قد يصلح وقد يطغى. لذلك، قرن الله "المُلك" بـ "الحكمة" فقال: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾. وكما أشار الإمام البقاعي، فإن الحكمة هي "تخليص للملك مما يلحقه... من اعتداء الحدود".
فالحكمة هي البصيرة في وضع الأمور في نصابها، وهي فقه الأولويات والموازنات والواقع. ومشروع النهضة بلا حكمة هو سفينة بلا دفة، سرعان ما تجنح وتتحطم. فالناهض يسعى لامتلاك "سلطة" توجهها "حكمة".

المرتكز الثالث: العلم (أداة الفعالية والقوة)

لم يكتفِ الله بأن يؤتي داود الملك والحكمة، بل ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾، وكان من أبرز ما علمه "صنعة الدروع". وهذا يرمز إلى ضرورة امتلاك "العلم" بشقيه:

علم الوحي والمنهج: الذي يمثل مصدر الحكمة والقيم.

وعلم الكون والواقع: الذي يمثل الأدوات التقنية والاستراتيجية اللازمة لبناء القوة وحماية المشروع.
فالناهض لا يمكن أن يواجه "جالوت" العصر بجهل، بل لا بد من الجمع بين صلابة الإيمان، وعمق الحكمة، وإتقان العلم بأدوات العصر.

المرتكز الرابع: اليقين بوعد الله (الوقود الروحي للمعركة)

حين واجهت الفئة المؤمنة جيش جالوت الجرار، انقسم الناس إلى فريقين: فريق غرق في الحسابات المادية فقال: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ﴾، وفريق تسلح باليقين الإلهي فقال: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.
هذا اليقين بـ"وعد الله بالنصر" هو المرتكز الذي تقوم عليه كل المرتكزات الأخرى. وكما يصور سيد قطب، فإن المؤمنين في المعركة هم "ستار القدرة"، يفعل الله بهم ما يريد، وهم ينتصرون لأنهم يمثلون "إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض".
هذا اليقين ليس تمنيًا سلبيًا، بل هو ثمرة "الابتلاء" و"الصبر" و"الدعاء"، وهو الذي يمنح الناهض وجنده القوة النفسية لمواجهة أعتى القوى المادية، وهم على ثقة بأن النصر النهائي هو ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.

إن الناهض الذي يبني مشروعه على هذه المرتكزات الأربعة، يصبح أداة إلهية لتحقيق "سنة المدافعة" التي بها يُحفظ صلاح الأرض ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾. فيصبح صراعه ليس مجرد صراع سياسي، بل عبادة كونية يشارك بها في حفظ نظام العالم.



كتب حسان الحميني،
والله الموفف.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.