استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

دعوة النهضة ليست لجمهور يصفق بل لعقول تُفكر


 هل تُهمل البراهين في دعوة العوام؟ قراءة نقدية لمقولة شائعة
"إن الرعاع يقتنعون بالأفكار دون براهين، فكيف يمكنك أن تقنعهم بزيفها؟ إن الإقناع في سوق الرعاع لا يقوم إلا على نبرات الصوت وحركات الجسد، أما البراهين فإنها تثير نفورهم!"
هذه المقولة تعكس تصورًا نخبويًا متعاليًا على عامة الناس، وتتناقض مع المنهج القرآني والنبوي في الدعوة. من الضروري أن نفرق بين أساليب تبليغ الفكرة، وبين جوهر الفكرة ووسيلة إثباتها. فكون العامة قد يتأثرون بنبرة الصوت أو حركات الجسد لا يعني أنهم لا يتأثرون بالحجة، وإنما يعني أن علينا أن نوصل الحجة بأسلوب يفهمونه ويؤثر فيهم.

أولاً: القرآن نزل للناس كافة وليس للنخبة

القرآن الكريم خاطب "الناس" لا "النخبة"، قال تعالى:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ..." (يونس: 57)
والرسول ﷺ بُعث للناس كافة، وكان يخاطب البسطاء كما يخاطب الأكابر، ويقيم الحجة على الجميع. لقد آمن برسول الله ﷺ في أول دعوته أناسٌ بسطاء كخباب، وبلال، وعمار، وكان إيمانهم عميقًا متينًا، لم يكن قائما على "نبرة الصوت"، بل على قناعة عقلية وروحية صادقة.

ثانيًا: فصل البراهين عن الأسلوب خطأ تربوي

يخلط البعض بين وسيلة التبليغ ومادة الإقناع. صحيح أن طريقة الإلقاء وحركة الجسد تؤثر في التفاعل، لكن لا يعني ذلك أن نُسقط الحجة أو البرهان. بل علينا أن نتعلم كيف نعرض البراهين بأسلوب مشوق، مبسط، يفهمه الجميع.
مثال واقعي: حين سُئل الشيخ الشعراوي مرة عن الإعجاز العلمي، شرح مفهوم "المدّ والجزر" في القرآن بطريقة مبسطة أثّرت في العامة، دون تعقيد. لم يقل: "الناس لا يفهمون، دعونا نكتفي بالصراخ!"

ثالثًا: أمثلة من سيرة النبي ﷺ

• عندما جاء أعرابي وسأله عن التوحيد، لم يرفع النبي صوته أو يكتفِ بالحركات، بل ضرب له مثلاً فقال: "من خلق السماء؟" قال: الله. "من خلق الأرض؟" قال: الله... إلخ. ثم قال له: "فدع الأصنام إذن!"
هذا برهان فطري عقلي بسيط، بُني على المنطق البديهي.
• في بيعة العقبة، خاطب النبي ﷺ شبابًا من يثرب، بسطاء، فقراء، لكنهم فهموا قوله حين قال: "أبايعكم على أن تقولوا لا إله إلا الله، وتحموني مما تحمون منه أنفسكم وأموالكم."
فهموا "مقايضة الدعوة بالتضحية"، وهذه أعلى درجات الإدراك والإقناع.

رابعًا: دعوة العوام تتطلب أسلوبًا راقيًا لا استخفافًا

من أعظم ما في الإسلام أنه دين يخاطب العقول، لكنه لا يرهقها. يخاطب الفطرة، لكنه لا يختزلها. ولذا، من الخطأ أن نحتقر عقول الناس أو نحصر تأثيرهم في مجرد "الصوت" و"الحركة".
تطبيقات واقعية لدعوة العامة بالحجج:
• استخدم القصص الواقعية: حدثهم عن شاب تغير بعد أن فهم معنى التوبة، لا فقط لأنه "بكى في محاضرة".
• اضرب أمثلة حياتية: استخدم تشبيهات من واقعهم: الجوال – السيارة – الأسرة – العمل.
• استخدم الصور والمقارنات: مثل الفرق بين القلب الصافي والقلب المغشوش كالماء النقي والماء العكر.
• اعرض السؤال قبل الجواب: اجعلهم يتفكرون، لا تلقِ عليهم المحاضرات.
• استخدم اللهجة التي يفهمونها: لا تتكلم بلغة النخبة، بل بلغة قريبة من أفهامهم دون إسفاف.

خاتمة

ليست المشكلة في "الرعاع"، بل في الأسلوب الذي نخاطبهم به. والعوام ليسوا أغبياء، بل مظلومون في تلقي الخطاب الدعوي الراقي. إن احتقار العقول تحت مسمى "الرعاع" يناقض جوهر الرسالة، فالله أرسل رسوله "بالبينات والهدى"، لا بالصراخ والصوت فقط.



د.سامر الجنيدي_القدس

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.