استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

ليست "طبخة جاهزة": حكمة الناهض في الدعوة إلى سبيل الرشاد

في قلب كل مجتمع يعاني من ضبابية الرؤية وهيمنة الخطاب المضلل، يبرز سؤال جوهري: كيف يمكن للناهض، حامل مشروع التغيير، أن يقدم دعوته ويشق بها طريقًا وسط ركام الباطل الذي يقدّم نفسه بصفته الحق الأوحد؟ وكيف يواجه "رشادًا" مزيفًا يدّعيه الطاغية، ليقدم "رشادًا" يعتقده حقيقيًا يهدي الأمة؟

يقدم لنا القرآن الكريم في قصة "مؤمن آل فرعون" نموذجًا عمليًا فذًا، ودروسًا بليغة في منهجية الدعوة وحكمة القيادة. فهذا الرجل، لم يواجه الطغيان بقوة السلاح، بل بقوة الحجة وصفاء المنهج، مقدماً مشروعه في آية محورية خالدة: ﴿وَقَالَ اَ۬لذِےٓ ءَامَنَ يَٰقَوْمِ اِ۪تَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَ۬لرَّشَادِۖ﴾ (غافر: 38). إن هذه الآية ليست مجرد دعوة، بل هي إعلان عن مشروع نهضوي متكامل، له فلسفته وأدواته ومراحله.

الرشاد: "سبيل" يُسلك أم "طبخة جاهزة وسريعة" تُقدَّم؟


كان يمكن للمؤمن أن يقول "اتبعوني أهدكم الرشاد"، لكنه اختار بدقة لفظ "سبيل الرشاد". وهذا الاختيار يكشف عن أول وأهم فارق بين منهج الناهض ومنهج الطاغية. ففرعون، قبل آيات، كان قد ادعى احتكار الحقيقة بقوله: ﴿… مَآ أُرِيكُمُۥٓ إِلَّا مَآ أَر۪يٰ وَمَآ أَهْدِيكُمُۥٓ إِلَّا سَبِيلَ اَ۬لرَّشَادِۖ﴾ (غافر: 29). لكن "رشاد" فرعون هو أشبه بـ "طبخة جاهزة"؛ وجبة فكرية سريعة تُقدَّم للمجتمع ليستهلكها دون تفكير، وتؤدي به إلى الكسل العقلي والتبعية العمياء.

أما "سبيل الرشاد" الذي دعا إليه المؤمن، فهو "دعوة لتعلم الطبخ"؛ إنه مسيرة متكاملة تبدأ بالاستنهاض، وتمر بالمصاحبة والتعليم، وتهدف إلى الدلالة على الطريق. الناهض لا يصنع أتباعًا مستهلكين، بل يبني أحرارًا راشدين، قادرين على التمييز والسير على الدرب بأنفسهم. إنه يقود بالهداية القائمة على الدليل، لا بالتقليد الأعمى لشخصه.

حكمة العرض : منهجية متكاملة في كسب العقول والقلوب

تكشف أقوال فحول المفسرين عن الأبعاد الاستراتيجية والنفسية في دعوة هذا الناهض:

1. القيادة بالدليل لا بالتقليد:

يوضح الفخر الرازي رحمه الله أن دعوة المؤمن كانت دعوة لاتباع الحجة لا لتقليد الشخص، فيقول:

"وليس المراد بقوله {اتبعون} طريقة التقليد لأنه قال بعده {أهدكم سبيل الرشاد} والهدى هو الدلالة، ومن بين الأدلة للغير يوصف بأنه هداه، وسبيل الرشاد هو سبيل الثواب والخير وما يؤدي إليه؛ لأن الرشاد نقيض الغي، وفيه تصريح بأن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغي."

2. بناء الثقة وتشخيص الداء:

يبدأ المؤمن بنداء "يا قوم" ليؤكد وحدة المصيروالانتماء، ثم يشرع في تشخيص أصل الداء، وهو ما يوضحه ابن عاشور رحمه الله بعبقرية، معتبراً أن المؤمن بنى خطبته على فهمه العميق لنفسية قومه، فيقول:

"لأنه علم أن أشدّ دفاعهم عن دينهم منبعثٌ عن محبة السيادة والرفاهية، وذلك من متاع الدنيا الزائل وأن الخير لهم هو العمل للسعادة الأبدية."

ولهذا، كانت أولى ضرباته الجراحية هي هدم قيمة هذا "المتاع" بوضع الموازين في نصابها الصحيح: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ (غافر: 39).

3. الشجاعة في لحظة الحقيقة:

في اللحظة التي بلغ فيها استهتار فرعون ذروته، تحولت الدعوة من الهمس إلى الصدع بالحق. يصور سيد قطب رحمه الله هذا المشهد الدرامي ببراعة أدبية:

"أمام هذه المراوغة وهذا الاستهتار وهذا الإصرار، ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة... إنه يقول في مواجهة فرعون (يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد).. وقد كان فرعون منذ لحظات يقول: (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) فهو التحدي الصريح الواضح بكلمة الحق، لا يخشى فيها سلطان فرعون الجبار."

قواعد العالم الجديد: العدل المطلق والفضل اللامحدود

بعد أن هدم قيمة الدنيا الزائلة في نفوسهم، شرع الناهض في بناء معالم "دار القرار"، راسماً قواعد عالم جديد يقوم على قيمتين أساسيتين، كما في الآية 40:
  • العدل المطلق: ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا﴾. هذا القانون يهدم نظام المحسوبية والطبقية الفرعوني. أمام ميزان الله، لا حصانة لأحد، والجزاء بالمثل تمامًا.
  • الفضل اللامحدود: ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا... فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. هنا قمة الترغيب والتحفيز. ففي مقابل العدل الصارم مع المسيء، هناك فضل وكرم لا نهائي مع المحسن. الجزاء ليس "بالمثل" فقط، بل "بغير حساب".
وبهذا، يقدم الناهض رؤية متكاملة لا تكتفي بهدم الباطل، بل تبني حقًا أكثر جمالاً وعدلاً وجاذبية، يقوم على معيار عالمي واحد: الإيمان والعمل الصالح، للذكر والأنثى على حد سواء،
إنها بداية التكليف وافق سبيل الرشاد بكل ما يقتضيه ذلك من عدل وترقب للفضل ومنهجية رشد.

خلاصة للناهض اليوم

إن منهج مؤمن آل فرعون يقدم للناهض اليوم خارطة طريق واضحة:

لا تبع حلولاً جاهزة، بل اهْدِ إلى سبيل. ركز على المنهج والتربية وبناء العقول الحرة.

شخّص أصل الداء قبل وصف الدواء. افهم الدوافع القلبية والمصلحية الكامنة خلف الأفكار الباطلة.

ابنِ على المشتركات واكسب الثقة قبل طرح الخلافات.

وازن بين الحكمة في العرض والشجاعة في المواجهة. فلكل مقام مقال.

قدم بديلاً أفضل. لا تكتفِ بنقد الواقع، بل ارسم صورة واضحة ومغرية للمستقبل المنشود، القائم على العدل والفضل الإلهي.

إن "سبيل الرشاد" ليس مجرد برنامج سياسي أو اقتصادي، بل هو مشروع حضاري متكامل يبدأ من إعادة صياغة القيم في قلب الإنسان، ليعيد صياغة الحياة على الأرض كلها.



كتب حسان الحميني 
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.