استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المقال 13: تحرير الإنسان من الأغلال المفاهيمية : قراءة في مواجهة موسى للسحر


إن أخطر السجون التي يمكن أن يُحبس فيها الإنسان ليست تلك التي لها جدران وقضبان، بل هي سجون العقل غير المرئية؛ "الأغلال المفاهيمية" التي تكبل وعيه وتتحكم في سلوكه. ومن هنا، فإن الدور الأسمى لكل ناهض ومصلح ليس مجرد تغيير الواقع المادي، بل هو بالأساس خوض "معركة مفاهيمية" لتحرير الإنسان من هذه الأغلال، وإعادته إلى رحابة فطرته التي فطره الله عليها. ويقدم لنا القرآن الكريم في مواجهة موسى عليه السلام للسحرة، نموذجًا عمليًا خالدًا لكيفية خوض هذه المعركة.

فالخوف من السحر، كنموذج، ليس مجرد خوف من أذية محتملة، بل هو ظاهرة تكشف عن هيمنة شبكة من المفاهيم الفاسدة على وعي المجتمع. فبينما حقيقة السحر الشرعية محدودة، فإن "الأساطير والموروثات وحكايات الناس" تصنع له صورة متضخمة، فيتحول إلى مفهوم مرعب ومسيطر، يؤثر في حياة الناس أحيانًا أكثر من العقيدة السليمة. وهذا التضخم لا يحدث إلا في "بيئة مفاهيمية" حاضنة، يسودها الفراغ الروحي، وتغيب عنها أدوات التفكير النقدي، وتضعف فيها المرجعية العقدية الصحيحة. فالناهض لا يحارب "السحر" كظاهرة، بل يحارب البيئة التي تجعله ممكنًا ومؤثرًا.

منهج موسى في كسر الأغلال المفاهيمية

في ساحة المواجهة، حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم و"سحروا أعين الناس"، لم يدخل موسى عليه السلام في معركة لإثبات أن "معجزته" أقوى من "سحرهم" على المستوى المادي فقط، بل خاض معركة مفاهيمية خاطفة ودقيقة، كما تتجلى في قوله تعالى على لسانه: ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ ۖ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس: 81). لقد استخدم ثلاثة أسلحة مفاهيمية حاسمة:

1. سلاح التفكير النقدي (التصنيف والتسمية):

أول ما فعله موسى هو أنه رفض الخضوع للمشهد المبهر، وقام بتحليله وتصنيفه. لم يقل "ما هذا الشيء الخارق؟"، بل قال بثقة "مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ". إنه يسمي الشيء باسمه الحقيقي. وبتسميته "سحرًا"، يكون قد نزع عنه هالة القداسة والرهبة، وحصره في دائرة "الخداع والتضليل"، وحرر عقول الناس من أول وأخطر غُلّ: غُلّ الانبهار الذي يعطل التفكير.

2. سلاح المرجعية العقدية (إعادة الأمور إلى الله):

بعد أن صنف فعلهم، لم يواجهه بقوته، بل لجأ مباشرة إلى المرجعية العليا، إلى "العنصر الأساس في المنظومة": الله سبحانه وتعالى. فقال: "إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ". هو هنا يقدم مفهومًا جديدًا كاسحًا: مفهوم "الهيمنة الإلهية". قوة الله تبطل قوة السحر. هو يعلم الجمهور أن هناك قوة أكبر وفاعلاً حقيقيًا خلف الستار، وأن كل قوة أرضية هي تحت هيمنته. وهذا يحرر الناس من غُلّ الخوف من القوى الظاهرة.

3. سلاح السنن الإلهية (بناء المناعة الفكرية):

لم يكتفِ موسى بالحديث عن هذه الحالة الخاصة، بل انتقل إلى إعطاء "قانون عام" و"سنة إلهية" لا تتخلف: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ". وهنا، هو لا يحررهم من هذا الموقف فقط، بل يعطيهم "أداة" و"منهجًا" لتحليل كل المواقف المستقبلية. لقد أعطاهم "مفهومًا مناعيًا"؛ فكل عمل قائم على "الإفساد" - سواء كان سحرًا أو ظلمًا أو غشًا أو تضليلاً - هو عمل لا يمكن أن "يصلح" أو يثمر صلاحًا، بل يحمل بذور فنائه في داخله. وكما شرح ابن عاشور، فإن الساحر مفسد لأنه "يضلل عقول الناس ليكونوا مسخرين له... ولا يهتدوا إلى إصلاح أنفسهم سبيلاً". فمنهجهم هو "الإفساد"، وسنة الله هي "عدم إصلاح" عملهم.

خاتمة: الناهض مُحررًا للمفاهيم

إن دور الناهض، كما يتجلى في هذا النموذج الموسوي، هو دور إنساني عالمي. إنه "محرر" للعقول من الأغلال المفاهيمية التي تفرضها السلطة، أو الخرافة، أو قيم السوق المادية. مهمته هي بناء "بيئة مفاهيمية طاردة للمفاهيم الفاسدة"، وذلك عبر ترسيخ التفكير النقدي، وتأصيل المرجعية العقدية، والكشف عن السنن الإلهية.
فالناهض الحقيقي لا يركض خلف "الأعراض" ليطفئ حرائقها، بل يذهب مباشرة إلى "الأسباب" ليجفف منابعها، فيحرر الإنسان من سجونه الداخلية أولاً، ليكون قادرًا على بناء عمرانه الخارجي على أساس من النور والفطرة.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.