في مفارقة هي الأعظم في تاريخ الوجود، كيف يمكن للإنسان، الذي كرمه الله وأسجد له ملائكته، أن ينتهي به المطاف ساجدًا لجماد لا يضر ولا ينفع؟ كيف يصبح سيد الكون عبدًا لما سُخر له؟ إن هذا "الانقلاب" المأساوي هو ما شخصه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله البليغ: "تَعِسَ عبدُ الدينارِ، تَعِسَ عبدُ الدرهمِ، تَعِسَ عبدُ القطيفةِ...". وهذا التشخيص النبوي لا يصف حالة فردية، بل يكشف عن مرض حضاري عميق، وعن "سطوة" غير مرئية لعالم الأشياء على عالم الأفكار وعالم الأشخاص.
إن مهمة الناهض الكبرى، في كل عصر، هي خوض معركة "تحرير الإنسان" من هذه العبودية، وتفكيك "الأغلال المفاهيمية" التي تصنعها، وإعادته إلى "حصن الكرامة" الذي أراده الله له.
كيف يصنع الإنسان سطوة الجماد؟
إن سطوة "الدينار والقطيفة" لا تنبع من ذاتها، فهي جمادات صماء. إنها سطوة تأتي من داخل الإنسان، فهو من يمنحها القوة عبر عملية "تشرب" نفسي وفكري تبدأ من الحواس. فالمجتمع الذي تحكمه "قيم السوق"، يقصف حواسنا ليل نهار بصور تربط السعادة والنجاح بامتلاك الأشياء. وشيئًا فشيئًا، يتشرب الإنسان هذه المفاهيم المريضة، فيبدأ بـ "تعظيم" الجماد، ثم "يتعلق" به قلبه، ثم يتحول هذا التعلق إلى "عبودية" كاملة، فيصبح رضاه وسخطه مرتبطين بهذا الجماد، كما وصف الحديث: "إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط سخط". والمأساة الكبرى أن هذه العبودية قد تصيب حتى الفقير الذي لا يملك الدينار، إذا أصبح قلبه أسيرًا للرغبة فيه عبودية لغير الله.
منهج الناهض في تفكيك العبودية: النموذج الإبراهيمي
يقدم لنا القرآن في دعاء إبراهيم عليه السلام، وهو محطم الأصنام الأول، منهجًا لتحرير الإنسان. فحين رأى إبراهيم أثر هذه الجمادات، لم يحاربها فقط، بل شخص الداء وشكا إلى ربه: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراٗ مِّنَ اَ۬لنَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِے فَإِنَّهُۥ مِنِّے وَمَنْ عَص۪انِے فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ) (إبراهيم: 38). إن نسبة "الإضلال" إلى الأصنام، كما يوضح ابن عطية رحمه الله، هي "تجوز، إذ كانت عرضة الإضلال، والأسباب المنصوبة للغيّ". فإبراهيم هنا يشخص خطورة "الفتنة" التي يمثلها الجماد بعد أن منحه الناس السطوة.
من هذا المنهج الإبراهيمي، يتعلم الناهض أن المعركة هي "معركة مفاهيم" في المقام الأول، وآليتها تقوم على :
تأسيس معيار جديد للانتماء : لا يقوم على الملكية المادية، بل على التبعية للمنهج. وهذا ما أعلنه إبراهيم بوضوح: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾. وكما يشرح الزمخشري، فإن معنى ذلك : "هو بعضي لفرط اختصاصه بي وملابسته لي". فالرابطة هي رابطة المنهج والفكر، لا رابطة الطين والدم.
فتح باب الرحمة حتى للعصاة : في مقابل من تبعه، لم يدعُ إبراهيم على من عصاه، بل فوّض أمره إلى الله بـ "قول جميل ونطق حسن"، كما يقول ابن عطية رحمه الله، فقال: ﴿وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. إنه يستمطر لهم الرحمة، ويرغب في هدايتهم، كما يشير البقاعي رحمه الله، وهذا هو قلب الداعية الناهض، الذي يسعى لتحرير الإنسان لا لهلاكه.
إعادة تعريف القيمة : الناهض يعمل على بناء "بيئة مفاهيمية طاردة" لعبودية الجماد، وذلك عبر ترسيخ التفكير النقدي، وتأصيل المرجعية العقدية التي تعيد الإنسان إلى فطرته وقيمته الحقيقية.
كيف يتحرر الإنسان من عبودية الدينار والقطيفة؟
التحرر ليس في التخلص من المال أو المتاع، بل هو في "تصحيح العلاقة" بهما. والناهض، بمنهجه التربوي، يقود الإنسان إلى هذا التحرر:
حينها، لا يعود "الدينار" معبودًا يُسعى إليه لذاته، بل يصبح "أداة" و"أمانة" تُستخدم في عمارة الأرض وتحقيق الخير.
ولا تعود "القطيفة" رمزًا للقيمة، بل تصبح مجرد وسيلة للستر والزينة، بينما القيمة الحقيقية هي في "لباس التقوى ذلك خير".
إن مهمة الناهض هي مهمة إنسانية عالمية، لا تقل عن مهمة إبراهيم عليه السلام. إنها مهمة تحطيم "أصنام العصر" المفاهيمية، وإخراج "عبيد الدينار" من "تعاستهم"، وإعادتهم إلى حصن الكرامة الفطرية في رحاب العبودية لله وحده.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.