استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المقال 16: أحطت بما لم تحط به: اليقين كأداة للمعرفة والشجاعة في مشروع النهضة


وراء كل فعل إنساني، سواء كان بناءً أم هدمًا، خيرًا أم شرًا، يكمن "يقين" ما. هذا اليقين ليس شعورًا غامضًا، بل هو في حقيقته "مفهوم راسخ" وصل إلى أعمق طبقات الوعي والنفس، فأصبح هو "نظام التشغيل" الذي يحكم رؤيتنا للعالم ويوجه سلوكنا. فالإنسان لا يعيش في فراغ مفاهيمي؛ فمن ليس لديه يقين بالحق، لديه بالضرورة يقين بالباطل. ومن هنا، فإن المعركة الحقيقية التي يخوضها كل ناهض ومصلح هي "معركة يقينيات"، يسعى فيها لاقتلاع اليقينيات الفاسدة وزرع اليقينيات الصحيحة. ورغم أن هذا "المفهوم الراسخ" عنيد ويستعصي على إعادة التشكل، إلا أنه قابل لذلك، ويتفاوت الناس في درجة اليقين به "بقدر إحاطتهم" بالفكرة.
ويقدم لنا القرآن الكريم في قصة الهدهد مع نبي الله سليمان عليه السلام، نموذجًا فريدًا وعمليًا، يكشف كيف يمكن لـ "اليقين" أن يكون أداة للمعرفة، ومصدرًا للشجاعة، وشرارة لانطلاق أعظم المشاريع الإصلاحية.

اليقين كشبكة مفاهيم: معركة الإحاطة

إن "اليقين" لا يوجد كمفهوم معزول، بل هو قمة "شبكة مفاهيم" مترابطة. فاليقين بأن "الله هو الرازق" يرتكز على مفاهيم "القدرة" و"الغنى" و"الرحمة" الإلهية. واليقين بأن "الظلم مهلكة" يرتكز على مفاهيم "العدل" و"الحساب" و"السنن التاريخية".
وهنا تكمن المعركة التي يخوضها الناهض: هي معركة بين "شبكتين مفاهيميتين" متضادتين. شبكة مفاهيم "التوحيد" التي تورث اليقين بالله، وشبكة مفاهيم "الجاهلية" التي تورث اليقين بالمادة أو بالخرافة أو بالقوة. والنصر في هذه المعركة يكون لمن يمتلك "إحاطة" أشمل وأعمق، كما فعل الهدهد حين قال بثقة: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾.
يتعلم الناهض من هذا المشهد درسًا في التواضع المعرفي؛ فاليقين والمعرفة ليسا حكرًا على القيادة، بل قد يأتيه "النبأ اليقين" من أصغر أفراد مجتمعه. وعليه أن يبني ثقافة تشجع "الهداهد" على المبادرة والاستكشاف، وتضمن وصول "النبأ اليقين" إلى مركز القرار.

اليقين كمصدر للشجاعة: مواجهة السلطة بالحقيقة

كان الهدهد مهددًا بعقوبة شديدة، لكنه لم يبدأ بالاعتذار. بل بدأ، كما يوضح الإمام الآلوسي، بمقدمة قوية "لترويجه عنده... وترغيبه في الإصغاء". لقد قدم "قيمة" (النبأ اليقين) تجعل من "خطئه" (الغياب) أمرًا ثانويًا.
إن ما منحه هذه الجرأة هو "اليقين" الذي يحمله. فهو على يقين من صدق معلوماته، وأهميتها لمشروع التوحيد. وهذا يعلم الناهض وأتباعه أن "اليقين بالحق" هو أقوى سلاح لمواجهة السلطة. فالذي يمتلك الحجة اليقينية، يمتلك الشجاعة لعرضها، لأنه لا يتكلم باسم نفسه، بل باسم الحقيقة التي أحاط بها.

اليقين كشرارة للعمران: "وجئتك من سبأ بنبأ يقين"

لم يكن "نبأ" الهدهد مجرد معلومة، بل كان "مشروعًا". لقد شخص الداء (قوم يسجدون للشمس)، وقدم المعلومة للقيادة، فكانت هذه المعلومة اليقينية هي الشرارة التي أطلقت حركة دعوية كبرى، انتهت بإسلام مملكة سبأ.
وهذا يوضح أن "اليقين" ليس حالة قلبية سلبية، بل هو طاقة حركية فاعلة. هو الذي يحول "المعرفة" إلى "مسؤولية"، و"المشكلة" إلى "فرصة للإصلاح". إن الأمة التي يمتلك أفرادها، من الأمير إلى الغفير، "يقينًا" بالحق، و"شجاعة" لعرضه، و"إحاطة" بواقعهم، هي أمة حية، قادرة على إطلاق المبادرات، وتصحيح مسارها، والانطلاق في مشاريع العمران.

خاتمة: صناعة اليقين

إن مهمة الناهض الكبرى هي "صناعة اليقين". هو لا يكتفي بأن يكون هو "موقنًا"، بل يعمل على "هندسة شبكة مفاهيم" كاملة في مجتمعه، مركزها "اليقين بالله ووعده". وذلك من خلال تربية أفراده على "الإحاطة" بكتاب الله وسنن كونه، وتشجيعهم على "شجاعة" المبادرة، وفتح "قنوات" التواصل التي تضمن وصول "النبأ اليقين" من الميدان إلى القيادة. فالجيش الذي يتكون من "هداهد" موقنة، بقيادة "سليمان" حكيم، هو الجيش الذي لا يُهزم بإذن الله.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.