استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

العدل المطلق : كيف يقدم القرآن شرط القيادة الذي فشلت فيه الحضارات؟


العدل قيمة إنسانية كبرى، وفطرة سليمة تنشدها كل روح سوية. لكن التاريخ، قديمه وحديثه، يخبرنا أن كل منظومة أخلاقية بشرية لها "نقطة تكسر"، وهي حين تواجه "العدو المبغَض". هناك، عند هذا المحك الأصعب، تسقط الشعارات، وتتهاوى الأقنعة، ويظهر العجز عن تحقيق "العدل المطلق". وهذا الفشل ليس صدفة، بل هو نتيجة حتمية لكل منظومة لا تقوم على أساس يتجاوز المصلحة والمشاعر.
في خضم التدافع الحضاري، ومع سقوط الأقنعة الأخلاقية للقوى المهيمنة، يبرز سؤال جوهري: ما هو شرط الأهلية الحقيقي لقيادة العالم؟ لقد كشفت الأحداث الأخيرة كيف أن المنظومة الغربية، بكل ما تحمله من شعارات براقة حول حقوق الإنسان، قد "تكسرت" منظومتها عند أول اختبار حقيقي، فحصرت عدالتها في دائرتها الضيقة، وتحالفت مع "الشر المطلق" سعيًا لـ "نصر مطلق" يقوم على طحن الآخر المختلف.


وفي مقابل هذا العجز، لا يقدم القرآن نفسه كبديل يحتكر قيمة العدل، بل يقدم نفسه كالمنهج الذي يحدد "وظيفة" الأمة المسلمة: أن تكون "شاهدًا قائمًا" على هذا العدل في صورته المطلقة. وفي آية هي دستور هذا الشأن، يرسم لنا القرآن معالم هذا المنهج:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 8)

تشريح منظومة "العدل المطلق" في القرآن

إن هذه الآية لا تطلب العدل كقيمة مجردة، بل تؤسس له "منظومة" متكاملة تضمن استدامته ومطلقيته:

المنطلق هو الله: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾. فالدافع ليس مبدأً إنسانيًا قد يضعف، بل هو الله، وهذا منطلق ثابت لا يتغير.

الاختبار الحاسم هو العدل مع العدو: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾. وكما يقول الإمام الطبري رحمه الله، المعنى: "ولا يحملنكم عداوة قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة".

الغاية هي التقوى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾. فالهدف من العدل مع عدوك هو غاية روحية شخصية، وهي ارتقاؤك أنت في درجات القرب من الله. وكما يوضح الطبري، "لأن من كان عادلاً كان لله بعدله مطيعا، ومن كان لله مطيعا كان لا شكّ من أهل التقوى".

الضمانة هي المراقبة الإلهية: ﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. فالرقابة التي تضمن هذا العدل الصعب ليست قانونًا وضعيًا، بل هي اليقين بأن الله الخبير يحصي كل شيء.

"حقيقة العدل" وتطبيقاته العملية

إن هذه المنظومة لا تكتفي بضبط "ظاهر الفعل"، بل ترتقي إلى "باطن الحال". فالعدل له حقيقة أسمى، كما يكشفها الإمام القشيري رحمه الله بقوله:

"ولا تكون حقيقة العدل إلا بالعدول عن كل حظٍ ونصيب."

إنه التجرد الكامل من حظوظ النفس، كالرغبة في الانتصار أو التشفي. وهذا التجرد هو الذي ينتج "قواعد الاشتباك" الأخلاقية حتى في الحرب. فالعدل المطلق، كما يفصّله الإمام الجصاص رحمه الله، يقتضي "أن لا يتجاوز في قتالهم وقتلهم ما يستحقّون... دون المُثَلَةِ بهم وتعذيبهم وقَتْلِ أولادهم ونسائهم".

خاتمة: من "ادعاء" المبدأ إلى "القيام" بالشهادة

إن تاريخ المسلمين وحاضرهم ليسا حجة على "الإسلام"، بل هما حجة "لهم" أو "عليهم". وواقعنا اليوم "لن يجيرنا فيه الادعاء". فالطريق إلى استعادة "أمانة القيادة" لا يمر عبر انتظار سقوط الآخرين، بل عبر الجهاد لتحقيق وظيفتنا التي كلفنا الله بها: أن نكون "شهداء قائمين" على نموذج العدل المطلق.

فالمسؤولية على عاتق الناهض اليوم عظيمة: أن يثبت للعالم، بفعله قبل قوله، أن المنهج الذي يحمله ليس مجرد مبادئ نظرية، بل هو واقع عملي قادر على قيادة العالم بالعدل الذي هو أقرب للتقوى.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.