استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

أولم نعمركم؟: قراءة في الخسارة المركبة على ضوء آية من سورة فاطر


يصور المفكر مالك بن نبي مشهدًا بليغًا لحال الأمة في فترات انحطاطها: شخص متكئ إلى حائط، يستمتع بأشعة شمس عابرة، بينما يجري أمامه نهر عظيم لا ينتفع منه، وهو "الوقت". هذا المشهد ليس مجرد صورة، بل هو تشخيص دقيق لـ "خسارة مركبة" ذات أبعاد مدمرة؛ فهي "هدر للوقت" الذي هو وعاء العمل، و"هدر في صلاح العمل" نفسه، مما يؤدي إلى خسران الدنيا والآخرة. والأدهى من ذلك كله، أن يصل هذا الشخص إلى حالة من "الالتباس"، فيظن أن قعوده حكمة، وعمله الخاسر صلاحًا.

إن هذا "الحائط" الذي يتكئ عليه ليس مجرد جدار، بل هو "سند وهمي"؛ قد يكون تراثًا ميتًا تُجتر أمجاده دون عمل، أو أفكارًا وافدة مميتة تبرر الغفلة واللهو. وفي نهاية المطاف، حين ينتهي الوقت وتغرب الشمس ويجف النهر، يأتي المشهد القرآني الختامي من سورة فاطر، ليكشف عن المآل الحتمي لهذا الهدر، في صورة صرخة ندم لم يعد ينفع صاحبها: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَٰلِحاً غَيْرَ اَ۬لذِے كُنَّا نَعْمَلُۖ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ اُ۬لنَّذِيرُۖ فَذُوقُواْۖ فَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍۖ﴾ (فاطر: 37).

الاصطراخ: صوت الحسرة على الفرصة الضائعة

"الاصطراخ"، كما يصفه المفسرون، هو الصراخ الشديد الناتج عن ألم لا يطاق. إنه صوت الحسرة على "الخسارة المركبة". فهؤلاء لم يطلبوا تخفيف العذاب، بل طلبوا المستحيل: العودة إلى "زمن العمل" ليفعلوا أمرين: ﴿نَعْمَلْ صَالِحًا﴾ اعترافًا منهم بأنهم لم يكونوا يعملون الصالح، و*﴿غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾* إقرارًا بأن عملهم الذي كانوا يحسبونه صلاحًا، كان في حقيقته فسادًا. وكما يشير الإمام الرازي، فإن طلبهم هذا يكشف عن استمرار "داء الغرور" فيهم، فهم يطلبون الخروج ليعملوا وكأنهم يملكون القدرة على ذلك بأنفسهم، دون استعانة بالله، متناسين أنهم فشلوا في ذلك من قبل.

أولم نعمركم؟: الحجة البالغة

يأتي الجواب الإلهي ليس بالرفض المباشر، بل بسؤال تقريعي يقطع كل عذر ويقيم الحجة الكاملة. إنه يضع أمامهم "أدوات الهداية" التي أُعطيت لهم في الدنيا ولكنهم أهدروها:

حجة الزمن والعقل ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾: لقد أُعطيتم "العمر"، وهو "النهر الجاري" في مثال مالك بن نبي. أُعطيتم الزمن الكافي الذي يمكن فيه لصاحب الفطرة السليمة أن "يتذكر" ويعود إلى الصواب. وكما يوضح الإمام البقاعي، فإن الفعل جاء بصيغة الماضي "مَن تذكّر"، للإشارة إلى أن "ديوان المتذكرين قد خُتم، فلا يزاد فيه أحد". لقد انتهى وقت التسجيل.

حجة الرسالة والنذارة ﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾: لم تُتركوا لعقولكم فقط، بل تم "تأييد العقول بالدليل المنقول" كما يقول البقاعي. جاءكم "النذير" (الرسول، القرآن، الشيب، الموت...) ليوقظكم من غفلتكم، لكنكم تجاهلتموه.

فما للظالمين من نصير: سنة الله في الخذلان

تختم الآية بالقانون الحتمي: ﴿فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نصير﴾. وقد أشار ابن عاشور إلى أن العدول عن الخطاب إلى وصفهم بـ "الظالمين" هو "لإِفادة سبب انتفاء النصير عنهم". فسبب حرمانهم من النصرة هو "ظلمهم"، وأعظم الظلم هو الشرك بالله، ووضع الأشياء في غير محلها، كوضع العمر في اللهو، ووضع الجهد في الفساد.
وهنا يقدم البقاعي بصيرة استراتيجية، فيرى أن هذا القانون ليس أخرويًا فقط، بل هو سنة جارية في الدنيا، "لأن ظلمه في كل يوم يضعف ويهن، والحق في كل حين يقوى ويضخم".

خاتمة: الناهض ودعوة اليقظة

إن دور الناهض هو أن يقرأ على أمته "مشهد الاصطراخ" هذا قبل أن يصبح واقعًا. مهمته هي أن يهز "المتكئ على الحائط" ليوقظه من غفلته. أن يبين له أن "اليقينيات الفاسدة" التي يتكئ عليها، سواء كانت تراثًا ميتًا أو أفكارًا وافدة، لن تحميه من سنة الله.
مهمته هي أن يصرخ فيهم: "انتبهوا! فالنهر يجري، والعمر يمضي، والنذير قد جاء، وديوان العمل على وشك أن يُختم. فقوموا من اتكائكم، واغترفوا من نهر الزمن، واعملوا صالحًا قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الصراخ والحسرة".



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.