استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

كيف يحرر الناهض نفسه من ثنائية "القول والفعل"؟


في صفوف الناهضين، كثيرًا ما يستعر جدال يستنزف الطاقات ويشتت الجهود. فريق يصرخ: "كفانا قولاً، نريد فعلاً!"، وفريق آخر يرى أن الفعل بلا تنظير هو تخبط وضياع. ينشأ عن هذا انفصام وهمي، ومعركة زائفة بين "القول" و"الفعل"، وكلاهما ضحية فهم قاصر لسنن الله في التغيير.

إن القرآن الكريم لا يعالج هذا الإشكال بالترقيع، بل يقتلعه من جذوره، وذلك بتحديد "طبيعة القول" الذي يجب أن يكون هو المرتكز والمحور. فالمشكلة ليست في أولوية القول أو الفعل، بل في ماهية القول الذي نتبناه. وفي آيات حاسمة من سورة الحاقة، يقدم لنا القرآن "الميزان" الذي نفرز به الأقوال، ونوحد به الصفوف.

"تكلم لأعرفك": القول كأداة فرز

قبل أن نتجادل حول قيمة القول، علينا أن نمتلك العقلية الناقدة التي تستطيع فرز الأقوال وتمييزها. فكل قول هو نافذة نطل منها على حقيقة قائله ومشروعه. والقرآن يقدم لنا معيار الفرز حين ينفي عن الوحي صفات ويُثبت له صفة واحدة :

﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (42)﴾

فالقول المرفوض في ساحة النهضة هو أحد نوعين :

قول الشاعر: إذا كان رمز للتنظير المنعزل، والترف الفكري، والتركيز على جمال اللفظ والتأثير العاطفي دون ارتباط بالواقع أو التزام بالتغيير. إنه "احتراف للقول".

قول الكاهن : وهو رمز الادعاءات الغيبية، والحلول السحرية، والوعود الزائفة التي تستغل آلام الناس. إنه "بيع للقول".

فإذا كان هذا هو القول المرفوض، فما هو القول المعتمد الذي يجب أن يكون محور حركتنا؟

حقيقة "قول الرسول": تلازم الرسالة والرسول

يجيب القرآن بأن القول الحق هو: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾. وهنا يكمن مفتاح حل الإشكال كله. فلماذا نُسب القول للرسول وهو كلام الله؟ يجيب الإمام الماتريدي بأن النسبة تتعدد بتعدد الجهات :

"فأما ما أضيف إلى الرسول، فهو من حيث بلوغنا إليه من جهة الرسول... وأضيف إلى الله تعالى لأن مجيئه ومرويّه من عنده".

فالقول هو لله نسبةَ مصدرٍ وإنشاء، وهو للرسول نسبةَ تبليغٍ وظهور. وهذا يعني أن "قول الرسول" بطبيعته ليس قولاً منفصلاً عن الفعل، بل هو "قولٌ فاعل"، لأنه لا ينفصل عن مهمة "التبليغ" التي هي حركة وجهد وعمل. وكما يوضح "التفسير الأمثل"، فإن "كل ما يقوله الرسول فهو قول مرسله"، مما يؤكد أن الرسول لا يتكلم باسمه، بل يتحرك بالرسالة التي يحملها.

"الكرم" : الضمانة الأخلاقية لكمال القول،

ولكن، لماذا وصف الله رسوله هنا بأنه ﴿كَرِيمٍ﴾؟ يجيب الإمام البقاعي إجابة عبقرية تكشف عن التحام القول بالفعل التحامًا مطلقًا، فيقول إن الكرم هو الضمانة الأخلاقية ضد أي تحريف :

"{كريم} أي هو في غاية الكرم... فهو لا يزيد ولا ينقص، وكرم الشيء اجتماع الكمالات اللائقة به فيه."

فكمال الرسالة (القول) يتطلب كمالاً أخلاقيًا في حاملها (الفعل). فنفس الرسول "الكريمة" تأنف بطبيعتها من دناءة الكذب أو الزيادة أو النقصان. وهنا، تصبح أخلاق الناهض وسماحته وكرم نفسه هي الضمانة الأولى لصدق وأمانة القول الذي يحمله.

خاتمة : منهج الناهض.. تحري القول ليرتكز عليه الفعل،

إن هذا التدبر يضع بين أيدينا منهجًا عمليًا للخروج من جدلنا العقيم. فالمسألة ليست "قول أم فعل؟"، بل "أي قول؟". والمنهج، هو : "علينا أن نتحرى أن يكون قولنا قول الرسول، أي موافقا لقوله، ليكون صدقًا مرتكزًا للفعل الراشد".

فالناهض الحقيقي هو "المفكر المرابط على ثغره"، الذي يرفض أن يكون "شاعرًا" منعزلاً أو "كاهنًا" مخادعًا. بل يسعى جاهدًا لأن يكون لسانه حالاً لـ "قول رسول كريم"؛ قول حقاني لأنه ﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وقول فاعل لأنه تجسد في حياة وأخلاق "رسول كريم". وحين يكون "القول" بهذه المواصفات، فإنه لا يمكن إلا أن يلد "فعلاً راشدًا" يصدّقه ويحققه في أرض الواقع.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.