استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

"اقْرَأْ": كيف تحرر الآية الأولى القراءة من سجن "الهواية" وتجعلها سر الكرامة؟


حين نسمع كلمة "قراءة"، يتبادر إلى أذهاننا فعل تلاوة الحروف وفهم السطور. ولكن جذرها اللغوي في القرآن (ق-ر-أ) يفتح لنا آفاقًا أوسع بكثير؛ فهو يحمل معنى "الجمع والضم"، و"التتبع والبحث"، و"الاستقراء" الذي ينتقل من الجزئيات إلى القوانين الكلية. فالقراءة في المنظور القرآني ليست مجرد تلقي للمعلومات، بل هي عملية "بناء معرفي" متكامل.

ومن هنا، يغيظ أصحاب الرسالة أن يروا هذه العملية التأسيسية العظيمة تُختزل في قوالب الهوايات، وأن تصبح "القراءة" مجرد تسلية تُمارس في "وقت ثالث" بعد أن تمتلئ الحياة بضجيج الضرورات والكماليات. إن هذه النظرة هي التي تسلخ عن القراءة قيمتها، وتهمش دورها، وتشوه غايتها. ولكن، كيف نعيد للقراءة مكانتها؟ الجواب يكمن في العودة إلى "الأمر الأول" الذي افتتح به "الأكرم" رسالته الخاتمة.

إن آية ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ليست مجرد دعوة للقراءة بمعناها الضيق، بل هي "منهج تأسيسي" يعيد بناء علاقتنا بالمعرفة من جذورها، ويحررها من سجن "الهواية"، ليرفعها إلى مقام "الهوية" و"العبادة" و"سر الكرامة الإنسانية".

لحظة التأسيس: قراءة تسبق الإيمان وتصنع الإنسان

إن أول كلمة نزلت من السماء لم تكن "آمن" أو "صلِّ"، بل كانت ﴿اقْرَأْ﴾. وفي هذا الاختيار الإلهي إعلان بأن "القراءة" هي المدخل الصحيح لكل شيء: للإيمان، وللعبادة، وللنهضة. وكما يشير الإمام ابن عاشور في تحليله للحظة النزول، فإن النبي ﷺ، وهو الأمي، قد قرأ بالفعل بعد الغطة الثالثة، في إشارة إلى أن القراءة فعل رباني التمكين، وأن هذه الأمة أُسست لتكون "أمة قارئة" منذ لحظتها الأولى.

"باسم ربك": بوصلة القراءة ومنهجها

لم يأتِ الأمر مطلقًا، بل جاء مقيدًا بقيد هو المنهج كله: ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾. هذا القيد يحول القراءة من فعل عشوائي إلى عبادة منهجية متعددة الأبعاد:

قراءة تعبدية: فهي تُفتتح باسم الله طلبًا للبركة، كما يوضح الإمام الماتريدي، فتصبح القراءة مشروعًا مباركًا لا مجرد هواية عابرة.

قراءة توحيدية: هي قراءة تتم "مصاحبة" لوعي جلال الرب، فتكون، كما يقول ابن عاشور، "إبطالاً للنداء باسم الأصنام". إنها فعل يحرر العقل من كل مرجعية سوى الله.

قراءة تربوية: إنها تتم باسم "الرب"، وهو المربي والمعلم. وكما يلمح الإمام البقاعي، فإن القراءة هنا هي دخول في "عملية تربية" إلهية تهذب النفس وتصقل العقل.

سر الكرامة: من "العلق" إلى "القلم"

لماذا كانت القراءة هي أول تكريم من "الأكرم"؟ تجيب الآيات التالية: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾. الإنسان في أصله المادي كائن "عالق" ضعيف، وفي طبيعته النفسية كائن "ذو تعلق" و"علاقات"، وهذا يجعله قابلاً لـ "الاعتقال" في سجون الأرض والأهواء.
فجاءت "القراءة" كأداة للتحرر والارتقاء. جاءت لتنقل هذا الكائن "العلقي" من حالة الضعف إلى حالة الكرامة. والكرامة تتجلى في قوله تعالى: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾. فبالقراءة والقلم، كرّم الله الإنسان وميّزه عن سائر الخلق، وجعله الكائن الوحيد القادر على بناء "شبكة مفاهيمية" متكاملة، تُكوّن شخصيته وتحميه.

المناعة ضد الطغيان: صناعة الشخصية القادرة على الرفض

إن غاية القراءة "باسم الرب" هي بناء "شخصية ذات مناعة" ترفض الخضوع لأي طاغوت. وهذا ما تختم به السورة منهجها: ﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾. فالشخصية التي غذتها القراءة الربانية تمتلك جهاز مناعة فكري وروحي:

تقول ﴿كَلَّا﴾ في وجه كل باطل.

تمتلك إرادة ﴿لَا تُطِعْهُ﴾.

تستمد قوتها من ﴿وَاسْجُدْ﴾.

وتتحصن في حصن ﴿وَاقْتَرِبْ﴾.

إنها الشخصية التي ترفض "لجام الفكر" في فمها، فتأبى أن يوضع "سرج التبعية" على ظهرها، لأنها تستمد حريتها وسيادتها من قربها وسجودها لربها الأكرم.

خاتمة: القراءة.. فريضة الكرامة ومنهج النهضة

إن العودة إلى فقه الآية الأولى من القرآن تعيد ترتيب أولوياتنا كلها. فالقراءة ليست هواية نرفه بها عن أنفسنا، بل هي الفريضة التي بها نؤسس هويتنا، والعبادة التي بها نربي أنفسنا، والمنهج الذي به نبني مناعتنا، والكرامة التي بها شرفنا الله على العالمين. وحين يدرك الناهض أن "القراءة" هي "نقطة البدء" لكل إصلاح، وأنه يقرأ ليفهم الكون باسم خالقه، وليبني شخصية حرة قادرة على العمران، سيدرك حينها أن قلمه وكتابه هما أثمن ما يملك في مسيرته نحو الله.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.