استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

لئلا تكون عاريًا : منهج القرآن في بناء حجة الناهض.


الآية : (هَآنتُمْ هَٰٓؤُلَآءِ حَٰجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِۦ عِلْمٞ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِۦ عِلْمٞۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَۖ)(آل عمران، 65)

في ساحة التدافع الفكري والحضاري، يقف الإنسان مجردًا من كل شيء إلا مما يحمله في عقله وينطق به لسانه. يقف "عاريًا" إلا من "حجة" تستر موقفه وتثبّت قدمه. ومن هنا، فإن "النهضة" لا تكون حركة عشوائية،  هي فعل راشد يقوم على أساس متين. فالناهض الذي يتحرك بلا حجة، كمن يبحر بلا بوصلة، قد يضيع جهده ويصل إلى غير وجهته.

ولكن الحجة سلاح ذو حدين؛ فقد تكون برهانًا يبني العمران كحجة إبراهيم، وقد تكون مراءً يهدم الثقة كجدل أهل الأهواء. فكيف يتسلح الناهض بـ"حجة البناء"، ويتجنب "فتنة الجدل"؟ إن القرآن الكريم يقدم لنا منهجًا متكاملاً، لا لبناء الحجة فحسب، بل لبناء "أخلاق استخدامها".

لماذا نحاجج؟ شرعية الحجة وغايتها

يؤسس القرآن لمبدأ "المحاججة" كأصل من أصول الدعوة و"سنة الأنبياء". فالصمت ليس دائمًا حكمة، والانعزال ليس منهجًا. وكما يوضح الإمام الماتريدي، فإن النهي القرآني في آيات مثل ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ﴾ ليس عن المحاججة مطلقًا، بل عن المحاججة "بغير علم". أما الحجة القائمة على العلم، فهي عطاء إلهي وسنة ربانية: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ﴾.

ولكن غاية هذه الحجة ليست الانتصار للنفس أو إفحام الخصم، بل هي دعوة راقية لإقامة "منهج القسط عمرانًا للإنسان والأرض". إنها دعوة للارتقاء إلى أرضية مشتركة، كما تتجلى في قوله تعالى: ﴿تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾. فالحجة المشروعة هي حجة "بِعِلْمٍ"، لهدف "البناء" لا الهدم.

كيف نكشف الزيف؟ سيكولوجية الجدل العقيم

في مقابل حجة الأنبياء، يضع القرآن نموذج "الجدل المذموم"، وهو الجدل الذي لا يبحث عن الحقيقة، بل يهدف إلى إثارة الشبهات وتكريس الباطل. هذا الجدل يكشف عن مرض نفسي ومنهجي، لا عن قصور معرفي. وكما يشخص الأستاذ سيد قطب رحمه الله هذه الحالة، فإنها:

"...الجدل إذن لذات الجدل. وهو المراء الذي لا يسير على منهج، وهو الغرض إذن والهوى".

فحين ترى من يجادل فيما لا علم له به، فاعلم أن دافعه ليس البحث عن الحق، بل حب الظهور، أو خدمة غرض خفي، أو اتباع هوى. وهنا، يجب على الناهض أن يمتلك "أداة تشخيصية" ليميز بين "الباحث الصادق" و"المجادل بالهوى"، ليعرف متى يحاور ومتى يكون الإعراض أبلغ رد.

كيف نحاجج؟ أخلاق الحجة وميزان المصلحة

إن امتلاك الحجة لا يعني استخدامها في كل وقت وبأي طريقة. فالقرآن يضع لنا "ميزانًا" دقيقًا يحكم عملية الجدال. ويوضح الإمام الشوكاني أن التعامل مع الجدال له مستويات: فهناك الجدال بالباطل وهو ممنوع، وهناك ترك الجدال ولو كنت محقًا وهو درجة إحسانية لقتل هوى النفس. أما الجدال المشروع، فهو مقيد بقيدين صارمين:

القيد الأخلاقي: أن يكون ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، والأحسن هو ما تحلى بالعلم.

القيد المقاصدي: أن يكون في المواطن التي "تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة".

فحجة الناهض "مؤطرة بالأخلاق" و"محكومة بالمصلحة". هو ليس مجادلًا محترفًا غايته الانتصار، بل هو مربٍ حكيم غايته الهداية والإصلاح.

خاتمة: من امتلاك الحجة إلى التحلي بأدبها
إن قوة الناهض الحقيقية تكمن في امتلاكه لـ "حجة" راسخة مستمدة من نور الوحي وبرهان العقل. ولكن القوة الأسمى ليست في امتلاك السلاح، بل في الحكمة في استخدامه.

والمنهج يكتمل حين يدرك الناهض أن النبي الخاتم ﷺ، وهو قمة الرحمة والحكمة، قد أُمر باتباع ملة أبيه إبراهيم، إمام المحاجّين. فهو ﷺ قد جمع في شخصه ومنهجه بين الأمرين: قوة الحجة في وضوحها وسطوعها، والرحمة برفقها وحكمتها.

فالناهض مدعو لأن يقتفي هذا الأثر النبوي الجامع؛ فيكون داعيًا إلى "كلمة سواء"، يجادل بالتي هي أحسن، ويعرف متى يكون الصمت أبلغ من الكلام، لئلا يقف يومًا في ساحة التدافع "عاريًا" من الحجة، أو "متجردًا" من الحكمة.


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.