استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

فلا يكن في صدرك حرج : كيف يتحرر الناهض من الحجب المعطلة؟


إن طريق النهضة والإصلاح هو طريق مواجهة وصَدع بالحق، وهو ما يقتضي شجاعة وثباتًا. لكن في قلب كل مصلح، قد يتسلل حجاب رقيق وخفي، لا يقل خطورة عن أي عدو خارجي، إنه "حجاب الحرج". هذا الشعور بالضيق والتردد هو أحد أخطر "المكابح" التي تشل الفعل الدعوي، وتغلق الفهم، وتمنع الإحسان، وتفسد النصيحة. وقد بلغ من خطورته أن الله سبحانه وتعالى تولى بنفسه تحصين قلب نبيه، ومن بعده كل داعية، من هذا الحجاب في آية تأسيسية : ﴿اَلَٓمِّٓصَٓۖ كِتَٰبٌ اُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِے صَدْرِكَ حَرَجٞ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِۦ وَذِكْر۪يٰ لِلْمُومِنِينَۖ﴾ (الأعراف: 1).

هذه الآية تقدم لنا منهجًا متكاملاً لتشخيص "الحرج" وعلاجه، وتحرير الناهض منه لينطلق في دعوته.

تشخيص الداء: طبيعة "الحرج" وأبعاده

"الحرج" ليس مجرد خجل، بل هو حالة نفسية مركبة من "الضيق". وقد رفض الإمام ابن عطية رحمه الله حصره في معنى واحد، مبينًا أن اللفظ أوسع من ذلك، فقال: "«الحرج» ها هنا يعم الشك والخوف والهم وكل ما يضيق الصدر" ، ثم بيّن أن مصدر هذا الضيق هو طبيعة المهمة نفسها، التي تستدعي: "التبليغ والإنذار وتعرض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك".
وهو أيضًا، كما يشير الإمام الماوردي، "حرج المسؤولية" الراقية، أي "خوفاً ألاّ تقوم بحقه"؛ خوف من التقصير في أداء حق هذه الرسالة العظيمة. وهذا الشعور، وإن كان نبيلاً، قد يتحول إلى عائق ما لم يتم التعامل معه. فهذا الداء الباطني، إن تُرك، فإنه يشل "جهاز المناعة" الأخلاقي في المجتمع، ويعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وصفة العلاج: كيف يرفع القرآن حجاب الحرج؟

تقدم الآية الكريمة علاجًا ثلاثي الأبعاد لتحرير صدر الداعية:
  • 1. استحضار المصدر (﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾):
إن أول وأقوى علاج هو تذكير الناهض بأن ما يحمله ليس مشروعه الشخصي، بل هو "كتابٌ مُنزَل". هو ليس المتكلم الأصلي، بل هو "مبلّغ" عن سلطة عليا. هذا الاستحضار يمنحه ثقة لا تهتز، ويحرره من ثقل المسؤولية الشخصية.
  • 2. وضوح المهمة (﴿لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾):
إن الوضوح في الهدف هو أكبر طارد للتردد. تحدد الآية للناهض مهمته المزدوجة بدقة، وكما يوضح الماوردي، فقد "جعله إنذاراً للكافرين وذكرى للمؤمنين ليعود نفعه على الفريقين". الانشغال بأداء هاتين المهمتين الواضحتين لا يترك مجالاً للشعور بالحرج.
وهنا يعلي سيد قطب رحمه الله من إيقاع المهمة، فيرى أن هذا الكتاب ليس للمهادنة، بل هو: "كتاب للصدع بما فيه من الحق ولمواجهة الناس بما لا يحبون؛ ولمجابهة عقائد وتقاليد... فالحرج في طريقه كثير، والمشقة في الإنذار به قائمة". هذا الفهم يجعل "الحرج" علامة على صدق حمل الرسالة لا على ضعف صاحبها.
  • 3. استلهام التجربة (﴿كَمَا أَنذَرَ مَن قَبْلَكَ﴾):
وكما يشير الإمام البقاعي بربطه السياقي البديع، فإن القرآن نفسه هو الدواء، بما يتضمنه من قصص الأنبياء السابقين، فيقول: "{فلا يكن في صدرك حرج منه} أي أنه قد تضمن مما أحلناك عليه ما يرفع الحرج ويسلي النفوس لتنذر به كما أنذر من قبلك". فهذه القصص تسلي قلب الناهض وتزيل حرجه من خلال:

الشعور بالرفقة على الطريق: فهو ليس وحده في هذه المعاناة، بل هو فرد في "موكب نبوي" عظيم.

وضوح المنهج: فهو "يستن بسننهم" في الدعوة والصبر، فلا يشعر بالحيرة.

اليقين بوجود المستجيبين: فهو يعلم أن دعوته ستجد دائمًا قلوبًا مؤمنة تتلقاها، وهم "المؤمنون" الذين تنفعهم الذكرى.

فالناهض الحقيقي هو من يتجاوز "حجاب الحرج" بالثقة في مصدر رسالته، والوضوح في غايته، والاستئناس بمنهج من سبقه من المصلحين، فينطلق في دعوته بقلب منشرح، وصدر لا حرج فيه.


كتب حسان الحميني،
والله الموفق

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.