في زمن تتلاشى فيه الحدود بين السياسة والأمن، باتت غزة تُقصف على وقع اتفاقيات تُصاغ في واشنطن والرياض وتُبارك في تل أبيب. الحرب الأخيرة في القطاع لم تعد مجرد ردع متبادل، بل فصل جديد من معركة كبرى يُعاد فيها رسم الشرق الأوسط وفق خرائط جديدة.
وقف إطلاق النار.. مؤجل حتى إشعار سعودي
بحسب تقرير صادر عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) في يونيو 2025، فإن إسرائيل ترى أن المفتاح لوقف العمليات العسكرية في غزة لم يعد موجودًا في القاهرة أو الدوحة فقط، بل في الرياض، التي تقف اليوم على أعتاب اتفاق تاريخي مع الولايات المتحدة يشمل ترتيبات دفاعية وإمكانية التطبيع العلني مع إسرائيل، في إطار توسيع اتفاقات أبراهام.
ويشير التقرير إلى أن إسرائيل لا تمانع في تقديم "تسهيلات إنسانية مدروسة" لغزة كجزء من صفقة أشمل، يتم فيها دمج السعودية في الحلف الإقليمي المناهض لإيران. هذا التداخل بين الملفات جعل وقف إطلاق النار مرهونًا بالتحركات السعودية وتوقيت إعلان الاتفاق مع واشنطن وتل أبيب.
إيران.. عندما انفجر الخط الأحمر
الهجوم الأمريكي الإسرائيلي المشترك الذي استهدف منشآت نووية إيرانية، والذي نسب رسميًا إلى واشنطن بحسب تقارير CNN و Wall Street Journal، لم يكن مجرد ضربة ردعية. بل وفق تحليل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، حمل رسالة مفادها أن "الخطوط الحمراء الأمريكية قد عادت".
وأكدت دراسة صادرة عن مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية (BESA) أن هذه الضربات جاءت في إطار تقييم استخباراتي مشترك، يفيد بأن إيران كانت على بعد أشهر فقط من تطوير قدرة نووية تكتيكية، وهو ما دفع تل أبيب للضغط على واشنطن للتحرك. وجاء هذا التصعيد متزامنًا مع تصعيد في غزة، ما جعل تل أبيب ترى في الجبهة الجنوبية فرصة لإعادة ترتيب أوراقها الاستراتيجية.
المعادلة الخليجية.. هل آن أوان المحاسبة
في تحليل مفصّل للـ INSS، طُرحت تساؤلات حول غياب الدور الأمني الفاعل لبعض دول الخليج في مواجهة التهديد الإيراني. وأشار التقرير إلى أن التحالف الأمريكي الإسرائيلي بات يرى ضرورة نقل عبء المواجهة إلى محور إقليمي أوسع، مع إشراك السعودية بشكل واضح في الترتيبات الأمنية، وهو ما سيكون له ثمن سياسي، أحد أوجهه هو ملف غزة.
الشارع العربي.. اختراق أم ارتداد
تُظهر بيانات حديثة صادرة عن مركز بيو للأبحاث ومؤسسة غالوب أن الدعم الشعبي العربي للقضية الفلسطينية لا يزال مرتفعًا للغاية (78% في الأردن، 65% في المغرب، 82% في تركيا). إلا أن النشاط الفعلي على الأرض محدود، ما دفع معهد كارنيغي لنشر دراسة بعنوان "موت الفاعلية الجماهيرية"، معتبرًا أن معظم الأنظمة العربية احتوت الحراك الشعبي وقيّدته ضمن مسارات داخلية غير مؤثرة خارجيا.
وفي المقابل، حذّر مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى من أن هذا الهدوء الظاهري قد لا يدوم طويلًا، خاصة في حال تم ربط تطبيع بعض الدول مع إسرائيل باستمرار العدوان على غزة أو تجاهل الملفات الفلسطينية الجوهرية.
خاتمة.. لعبة الأمم تُلعب من جديد
لم يعد مستغربًا أن يُعلن وقف الحرب على غزة من الرياض لا من القاهرة. هذا التحول يعكس تغييرات عميقة في موازين القوى الإقليمية، حيث أصبحت السعودية الحلقة المركزية في مشروع أمريكي إسرائيلي جديد يهدف إلى تطويق إيران، وإعادة ترتيب المنطقة سياسيا واقتصاديا.
لكن بقاء غزة تحت القصف، واستمرار المماطلة في إقرار وقف إطلاق نار شامل، قد يؤدي إلى تفجّر جبهات لم تُحسب لها الحسابات بعد. فمن نطنز إلى أنفاق غزة، ومن قاعدة العديد إلى الحرم المكي، كل شيء بات مترابطًا في صراع لم تعد تحكمه الجغرافيا وحدها، بل تتحكم فيه خرائط المصالح والطموحات والطاقة والسلاح.
بقلم: محمد يوسف