يُجمع علماء الإسلام أن الفقه هو ثمرة الوحي في حياة الناس، إذ به تُفهم الأوامر والنواهي، وتُضبط المعاملات، وتُبنى العلاقات، وتُقام النظم. غير أن الفقه الإسلامي – كما يُمارَس اليوم – قد فقد شيئًا كثيرًا من روحه العمرانية، ولم يعد في كثير من الأحيان أداةً لتحريك الحياة وبناء المجتمعات، بل صار في بعض المدارس أداة لضبط الشعائر الفردية والعبادات الشخصية فقط، منفصلًا عن هموم الناس، وحركة الاقتصاد، وعمران الأرض.
أولاً: الفقه في الأصل رسالة لإعمار الأرض
الفقه لغة هو "الفهم"، أما اصطلاحًا فهو "معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية". لكنه في جوهره هو "علم تنزيل الوحي على الواقع"؛ أي هو الآلية التي تربط النصوص بالحياة. ولذلك لا يصح اختزال الفقه في "فتاوى الطهارة والنجاسة"، بل الفقه - في مقصده النهائي - هو تمكين الإنسان من السير في الأرض بوعي، لتحقيق وظيفة الاستخلاف.
قال تعالى:
"هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" [هود: 61]،
أي طلب منكم إعمارها. فكيف يمكن تحقيق هذه الوظيفة دون فقه ينظم العمران، ويضبط المعاش، ويوجّه السلوك؟
ثانيًا: أقسام الفقه الإسلامي وعلاقتها بالعمران
يمكن تقسيم الفقه الإسلامي إلى ستة أقسام كبرى، لكل منها دور مباشر في الإعمار:
• فقه العبادات: ينشئ العلاقة بين العبد وربه، ويهذب السلوك، ويضبط المقاييس الأخلاقية التي تقوم عليها المجتمعات. فالصلاة تهذيب للضمير، والزكاة تدبير للثروات، والصيام تمرين على التحكم، والحج مؤتمر عالمي يربط الأمة.
• فقه المعاملات: من بيع، وشراء، وكراء، وشراكة، ووقف، وغيرها. هذا هو الفقه الذي ينظم الاقتصاد، ويُقيم العدل، ويمنع الاحتكار، ويوازن بين المال والعمل، ويضبط السوق بالقيم لا بالربا.
• فقه الأسرة: ينظم العلاقة بين الرجل والمرأة، ويضبط النسل، ويؤسس لبناء الأسرة المستقرة التي هي نواة العمران.
• الفقه الجنائي: يحمي المجتمع من الفساد والانحراف، ويصون الحقوق، ويُقيم الحدود والتعزيرات لضمان الأمن الاجتماعي.
• الفقه الدستوري والسياسي (فقه الإمامة): ينظم الحكم، ويضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويؤسس لمبدأ الشورى، ومحاسبة السلطة، وحماية المال العام، وإقامة العدل، وهي أسس لا يمكن لعمران أن يستقر بدونها.
• الفقه الدولي: ينظم علاقة الأمة بغيرها من الأمم، سواء في حال السلم أو الحرب، ويضبط مفهوم الجهاد، والسفر، والهجرة، والوفود، والاتفاقيات.
إذا أُعيد إحياء هذه الأقسام بفهم واقعي وروح مقاصدية، فإنها تتحول من مجرد فتاوى جامدة إلى أدوات فاعلة في إعمار الأرض.
ثالثًا: لا عمران بلا فقه ولا فقه بلا وعي بالواقع
غير أن هذه الوظيفة العظيمة للفقه لن تتحقق إلا بـ:
• مراجعة عميقة للمناهج الفقهية: يجب أن نعيد النظر في طرق التعليم الفقهي، بحيث لا يقتصر على حفظ المتون القديمة، بل يُدرَّس بمنهج مقاصدي، يُوازن بين النص والواقع، ويعيد ربط الفقه بحياة الناس.
• دراسة الواقع دراسة علمية: لا يمكن للفقه أن يضبط حياة الناس إذا كان الفقيه لا يعرف مشكلاتهم الحقيقية. فمثلاً: كيف يُفتى في قضايا الذكاء الاصطناعي أو العملات الرقمية أو البيوتكنولوجي أو البيئة دون وعي بتفاصيلها؟
• استعادة الفقه العمراني: فقه العمران هو ذروة سنام الفقه المقاصدي. إنه الفقه الذي ينظر إلى الأمة ككيان حضاري، ويعالج قضايا: التعليم، الصحة، الاقتصاد، البيئة، الفنون، الإعلام... كل ذلك من منطلق شرعي مقاصدي.
رابعًا: الفقه وإعادة بناء الحضارة الإسلامية
لقد عاشت الأمة الإسلامية قرونًا وهي تُعمر الأرض بالفقه: أنشأت الوقف، وبنت المدارس، وأقامت المؤسسات، وصدّرت العدل. واليوم، حين غاب هذا الفقه، انتشر الفساد، وانهار النظام، وتشرذم المجتمع. فهل آن الأوان أن نعيد للفقه وظيفته؟
إن المشروع النهضوي الإسلامي لن يُبنى بالخطب والشعارات، بل بفهم عميق للقرآن، وفقهٍ يربط النص بالواقع، ويُخرج الأمة من جمود التكرار إلى أفق التغيير.
خاتمة
إن إعمار الأرض بإعمار الفقه ليس شعارًا، بل مشروع حضاري عميق. والفقيه اليوم ليس من يحفظ "ألفية زكريا الأنصاري" أو "متن الغاية والتقريب"، بل من يُحسن فهم القرآن والواقع معًا، ويُعيد توجيه حركة الأمة نحو غايتها الكبرى: "لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ".
فالفقه ليس فقط لما يدخلنا الجنة، بل لما يحيينا كأمة.
د.سامر الجنيدي_القدس