استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المقال 18 : شحذ المنشار: كيف يقي الناهض مشروعه من فتنة الشيخوخة؟


المقدمة: شيخوخة المفاهيم وضرورة "الشحذ"

إن الناهض، في جوهره، هو "شبكة مفاهيم" حية، تتكون من قيم وعقائد وتصورات. وهذه الشبكة، كأي كائن حي، إن لم تتم "صيانتها" وتجديدها باستمرار، أصابتها "الشيخوخة" والجمود، فيظهر أثر ذلك "سلوكًا مشينًا ومعيبًا". والأخطر من ذلك، حين تجتمع هذه "الشيخوخة المفاهيمية" مع "ادعاء الحق"، يصبح الناهض نفسه "فتنة" تصد الناس عن سبيل الله.

وإدراكًا لهذه السنة، يأتي الترتيب القرآني في الجزء الحادي عشر كـ "منهج للتجديد" لهذه الشبكة. فهو ينقلنا من حركية "التشريع" إلى هدوء "التأصيل العقدي" في سورة يونس، في عملية "شحذ للمنشار"؛ أي "تحيين للشبكة المفاهيمية وتأهيلها" لمواجهة تحديات العمران. وفي قلب هذه الورشة، يأتي دعاء بليغ على لسان أتباع موسى عليه السلام، يقدم للناهض المنهج الوقائي ضد فتنة الشيخوخة.

"التوكل": أول عملية لشحذ المنشار

في مواجهة طغيان فرعون، وقبل أي دعاء آخر، يأتي الأمر بالتوكل والاستجابة الفورية له: ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا... فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا...﴾. إن أول عملية "شحذ" للمنشار الكليل هي "شحذ" علاقة القلب بالله. والتوكل هنا ليس "تواكلاً" سلبياً، بل هو "الاعتماد على السنن" الكونية بالأخذ بالأسباب، مع "تعليق القلب" برب الأسباب لطلب التوفيق والتمكين. وكما يشير الإمام ابن عاشور، فإن "الفاء الفورية" في ﴿فَقَالُوا﴾ تدل على "صدق إيمانهم... ومبادرتهم إلى التجرد عن التخوف".

"الفتنة": أخطر أعراض الشيخوخة

بعد شحذ التوكل، يأتي الدعاء الذي يكشف عن قمة الوعي: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾. إن خوفهم الأكبر لم يكن من الهزيمة، بل من أن يتحولوا هم أنفسهم إلى "فتنة". والفتنة، كما يعرفها الشيخ الطوسي، هي "الابتلاء الذي يظهر الأمور الباطنة"، كالنار التي تكشف الذهب من الزيف. فكان دعاؤهم طلباً ألا يظهر منهم في وقت الابتلاء إلا "الذهب الخالص". وهذا الدعاء، كما يشرح البقاعي وابن عاشور، يحمل خوفين: الخوف من أن يؤدي ضعفهم وهزيمتهم إلى "فتنة" الظالمين، فيظنوا أنهم على حق فيزدادوا طغياناً، وهذا منتهى "النظر إلى مصلحة الدين قبل مصلحة النفس".

آلية السقوط في "فتنة الشيخوخة"

ولكن، كيف يسقط الناهض في هذا الفخ؟ يبدأ المسار بـ "الغفلة عن السنن" (إهمال شحذ المنشار)، مما يؤدي إلى "مخرجات رديئة" في العمل. وبدلاً من مراجعة النفس، تنبت في "شبكة المفاهيم" نبتة "التواكل" المشوهة لتبرير الفشل. وهذا هو بداية "الشيخوخة المبكرة". والكارثة تقع حين تجتمع هذه الشيخوخة مع "ادعاء الحق والصواب"، فيصبح الناهض بسلوكه المشين ونتائجه الرديئة هو نفسه "فتنة للقوم الظالمين"، يصد عن سبيل الله وهو يحسب أنه يحسن صنعًا.

خاتمة: "لا تجعلنا فتنة".. دعاء صيانة الشبكة المفاهيمية

إن "شحذ المنشار" ليس ترفًا، بل هو "ضرورة وقائية" تحمي "الشبكة المفاهيمية" للناهض من الشيخوخة والتحول إلى فتنة. وآية يونس هي "ميزان" و"دعاء"؛ هي ميزان نزن به حيوية مفاهيمنا، ودعاء نلجأ به إلى الله ليحصننا. فأصدق علامات "الحياة" في المشروع النهضوي هي "الصيانة الدائمة" لشبكته المفاهيمية، والخوف من أن يكون فتنة. وأصدق علامات "الشيخوخة" هو "الجمود المفاهيمي" المقترن بـ "الرضا" عن النفس و"ادعاء" الكمال. وعلى الناهض أن يجعل هذا الدعاء ورده الدائم، ومنهج "تحيين شبكته المفاهيمية" دربه المستمر، لتكون دومًا مؤهلة لمهمة "العمران" التي كُلّف بها.


كتب حسان الحميني،
والله الموفق

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.