استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المقال 19: عبادة الهوى: كيف يواجه الناهض "الثقافة السائلة" في معركة المفاهيم؟


في خضم الصراع الحضاري، يواجه الناهض أعداءً ظاهرين بأسلحتهم وعدتهم، ولكن المعركة الأشد والأعمق ليست هنا. إنها، كما يكشف القرآن، "معركة ابتداءً في أعماق النفس البشرية"؛ معركة محتدمة بين مفاهيم الحق والباطل. فإذا انتصرت مفاهيم التوحيد، كانت المخرجات "عباد الرحمن"؛ وإذا انتصرت مفاهيم الشرك، كانت المخرجات "عباد الهوى". وفي قلب هذا التشخيص، تأتي آيتان عظيمتان، إحداهما في الفرقان والأخرى في النمل، لتقدمان للناهض "خارطة" هذه المعركة الداخلية.

تشخيص "الداء": حين يصبح "الهوى" إلهًا

يضع القرآن الكريم إصبعه مباشرة على "الجذر" الذي ينبع منه كل صد عنيف، فيقول مخاطبًا نبيه ﷺ بأسلوب يهز الوجدان:

﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ (الفرقان: 43)

إنها ليست مجرد معصية عابرة، بل هي "قلب للمرجعية"، حيث يصبح الهوى هو الحاكم المطلق. فصاحب هذا الداء، كما يشرح  الزمخشري، هو من "لا يتبصر دليلاً ولا يصغي إلى برهان"، لأن معياره الوحيد هو هواه. ويقدم لنا الطبري الصورة الحسية لهذه العبادة، فيروي أن الرجل منهم "كان يعبد الحجر، فإذا رأى أحسن منه رمى به، وأخذ الآخر يعبده". فالمعبود الحقيقي هو "ما يتخيره لنفسه" وفق هوى متقلب لا يثبت على حال.

"الثقافة السائلة": تجليات عبادة الهوى في العصر الحديث

إن "عبادة الهوى" هذه هي "الحقيقة الباطنة" لما يسمى اليوم بـ "الثقافة السائلة". هي ثقافة شعارها الظاهري البراق هو "التحرر من الثوابت"، ولكن نتيجتها الحتمية هي "إنسان متقلب، لا فرقان له، ولا ركائز علم، بل غواية الشيطان قائده". والذي يروج لهذه الثقافة في كثير من الأحيان هم "دعاة اللمج الفكرية"؛ وهم صنف من المثقفين لا يتعمقون في فكرة، بل "يلمجون" من كل فلسفة "لمجة" سريعة وسطحية. يأخذون قشور الأفكار الغريبة وشعاراتها، دون فهم لجذورها أو عواقبها، ثم يقدمونها لمجتمعاتهم كآخر صرعات "التحرر" و"التنوير".

وهذا "الهوى" الفردي يجد دعمه وحمايته في "البيئة والموروث" الجماعي الفاسد، فتتشكل دائرة مغلقة من الصد، كما تشخصها آية النمل الداعمة: ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ (النمل: 43).

منهج الناهض في "معركة المفاهيم"

إن الناهض البصير يدرك أنه "لا يواجه ظاهرًا"، بل يواجه هذه المنظومة العميقة. واستراتيجيته هي مواجهة "المفهوم الفاسد" بـ "المفهوم الصحيح".

التسلح بالفرقان: عليه أن يبني "ركائز العلم" لمواجهة "سيولة" خصومه. وهنا تبرز أهمية سورة النمل، التي هي "سورة علم بامتياز"، كنموذج للمنهج القائم على الحجة والبرهان، في مواجهة "غواية الشعراء" الذين "في كل واد يهيمون" كما وصفتهم سورة الشعراء.

فقه المواجهة: عليه أن يدرك حدود مهمته. وكما يبين البقاعي، فإن "صرف الأهواء" بيد "الله وحده". ومهمة الناهض ليست "الجبر" أو "الوكالة" على من أله هواه، بل هي "البلاغ" وإقامة الحجة، ثم التسليم لله الوكيل.

خاتمة: من عبادة الهوى إلى رحاب الفرقان

إن المعركة الحقيقية هي معركة مفاهيم معركة "تحرير الإنسان" من "عبودية الهوى" التي هي أصل كل صد عنيف. والناهض مدعو لأن يكون هو نفسه النموذج المضاد لـ "الثقافة السائلة" ودعاتها "اللماجين"؛ بأن يكون صاحب "ثوابت" راسخة، و"فرقان" بصير، و"ركائز علم" متينة. فمهمة الناهض ليست "إفحام" عباد الهوى، بل تقديم "النموذج البديل" الجذاب (نموذج عباد الرحمن)، الذي يري الناس جمال الحرية الحقيقية في عبادة الله وحده.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.