إن من أعمق الانفصامات التي تعيشها الحضارة المادية المعاصرة العابرة للقارات، هو إقرارها بـ "جدية" قوانين الكون الصارمة، مع تعاملها بـ "لعب" واستهتار مع قوانين الحياة الإنسانية والقيم الأخلاقية. وهي بذلك تجسد "روح ابن نوح" الذي آمن بصلابة "الجبل" ونسي قوة "أمر الله". وفي مقابل هذا الانفصام، يأتي القرآن الكريم ليؤسس لمنهج متكامل، ينطلق من "جدية الخلق" كبرهان قاطع على "جدية المسؤولية" الملقاة على عاتق الإنسان.
وفي قلب الجزء الخامس والعشرين، تأتي آية عظيمة من سورة الدخان لتكون هي "القاعدة التأسيسية" التي تلزم الإنسان بمنهج "جاد ومسؤول" في العمران، وتجعل الجزاء حتميًا:
وَمَا خَلَقْنَا اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَٰعِبِينَۖ (36) مَا خَلَقْنَٰهُمَآ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَۖ (37)
"برهان الحق": لماذا يستحيل أن يكون الخلق لعبًا؟
إن هذه الآية تقدم "برهانًا عقليًا" قاطعًا. وكما يوضح المفسرون كالبقاعي وابن عاشور، فإن "إتقان نظام الموجودات" و"عظمة الخلق" تنفي أن يكون الخالق الكامل قد خلق هذا الكون عبثًا، لأن "اللعب لا يفعله إلا ناقص". وهذا البرهان يقود إلى نتيجة حتمية: لو لم يكن هناك "بعث وجزاء"، لكان خلق الإنسان الذي يظلم ويُظلم فيه "لعبًا". وبما أن اللعب مستحيل، فالجزاء حتمي. وكما يقول الأستاذ سيد قطب، فإن تدبر هذا الكون "يوقع في النفس أن لهذا الخلق غاية فلا عبث فيه... وأن أمر الآخرة، وأمر الجزاء فيها حتم لا بد منه من الناحية المنطقية البحتة".
"جدية العمران": الحلقة المفقودة التي هي المحك
إن الكثير من الخطابات الدعوية تركز على "عظمة الخلق" كبداية، و"خطورة الجزاء" كنهاية، وتغفل عن "الحلقة الوسطى" التي هي المحك: "جدية العمران". فالمعادلة القرآنية الكاملة هي: "بما أن الكون بُني على الحق لا لعبًا، فعمرانه عليه أن يكون جدًا لا لهوًا ولا لعبًا". إن "العمران الجاد المسؤول" هو الذي ينسجم مع الحق الذي قام عليه الكون، ويأخذ أمانة الاستخلاف بمسؤولية. أما "عمران اللعب"، فهو الذي يتبع الهوى ويفسد في الأرض.
وكما يستنبط الإمام البقاعي، فإن ترك الناس "يبغي بعضهم على بعض... ثم لا نأخذ لضعيفهم بحقه من قويهم لكان خلقنا لهم لعباً". فـ "جدية العمران بالعدل" هي البرهان العملي على فهمنا لجدية الخلق.
أدوات "العمران الجاد" في مواجهة "اللعب والهوى"
إن هذا "العمران الجاد" لا يقوم على النوايا الطيبة فقط، بل يحتاج إلى "منهج" وأدوات عملية تحميه من "اللعب" و"الهوى"، وقد قدم لنا الجزء الخامس والعشرون هذه الأدوات:
في "عالم الأفكار": الأداة هي "القول السديد" المستمد من ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ...﴾ (الزخرف: 42)، في مواجهة "زخرف القول".
في "عالم الأشخاص": الأداة هي "الشورى" ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: 35)، في مواجهة "الاستبداد".
في "عالم الأفعال": الأداة هي "القوة العادلة" ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ (الشورى: 36)، في مواجهة "البغي".
في "عالم الأخلاق": الأداة هي "... اُ۪دْفَعْ بِالتِے هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَ۬لذِے بَيْنَكَ وَبَيْنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞۖ" (فصلت: 33)، في مواجهة "الغضب والحقد".
خاتمة: الجزاء الصارم كنتيجة للمنهج الجاد
إن "صرامة الجزاء" يوم القيامة ليست قسوة، بل هي "تمام الجدية" التي يقتضيها الخلق بالحق. وعلى الناهض أن يغادر "ساحة اللعب" وينخرط في "ميدان العمل الجاد" بأدواته الربانية. فالناهض الذي يدرك "جدية الكون"، ويلتزم بـ "جدية العمران"، هو وحده من يطمئن إلى "عدالة الجزاء"، ويسير في الأرض وهو يوقن أن كل خطوة محسوبة في كتاب سيجده أمامه: ﴿هَٰذَا كِتَٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّۖ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَۖ﴾ (الجاثية: 28).
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.