استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

"إني عذت بربي": كيف يبني الناهض حصنه في مواجهة المتكبرين؟


في مسيرة كل ناهض، تأتي لحظة حاسمة تشتد فيها المواجهة، وتتكالب قوى الباطل، ويصل التهديد إلى ذروته. في هذه اللحظة، ما هو "الحصن" الذي يلجأ إليه؟ وما هو "السلاح" الذي يواجه به؟ إن القرآن الكريم، في قلب سورة غافر، يقدم لنا على لسان موسى عليه السلام "إعلان الموقف" و"المنهج الكامل" لبناء الحصن النفسي والعقدي في مواجهة أعتى صور الطغيان.
﴿وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ (غافر: 27)
هذه الآية ليست مجرد دعاء، بل هي دستور للثبات، ومنهج للقوة، ودرس في القيادة.

"العوذ" كحالة وجودية: الالتصاق الذي يستعصي

إن "العوذ" ليس مجرد كلمة تُقال، بل هي "حالة وجودية". فكما جاء في لسان العرب "ما عاذ بالعظم ولزمه"، أي تلك الشظية من اللحم التي تلتصق بالعظم فتستعصي على الآكل. فالاستعاذة إذن هي "حالة التصاق" كامل بالله، تجعل الناهض "مستعصيًا" على كل قوى الشر التي تحاول نهشه، لأنه محمي بصلابة الرب الذي لاذ به.

تشريح العدو: تركيبة الكبر وإنكار الحساب

إن موسى عليه السلام لم يستعذ من "شخص" فرعون، بل استعاذ من "منهج" كل طاغية، وقد لخص هذا المنهج في وصف دقيق: ﴿مِّن كُلِّ مُتَكَبّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾. وهنا يكشف لنا الإمام الزمخشري عن "التركيبة الكيميائية" التي تنتج الشر المطلق:
"...لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة، فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله وعباده، ولم يترك عظيمة إلاّ ارتكبها..."
فالقلب "المتكبر" الذي لا رادع له من الداخل، والعقل الذي "لا يؤمن بالحساب" فلا رادع له من الخارج، هو "قنبلة موقوتة" من الطغيان، وهذا هو التشخيص الدقيق لما نراه اليوم من طغاة يمارسون "الشر المطلق" وهم آمنون من العقاب.

الاستعاذة كمنهج قيادي ودعوي

لم تكن استعاذة موسى مجرد دعاء شخصي، بل كانت "خطابًا قياديًا" بامتياز. وكما يوضح الإمام ابن عاشور، كان هذا الخطاب موجهًا لقومه "تطميناً لهم وتسكيناً لإِشفاقهم عليه". فالقائد يطمئن أتباعه بإعلانه عن حصنه المنيع. وهي أيضًا "دعوة تربوية" لهم، فقوله ﴿وَرَبِّكُمْ﴾، كما يرى الزمخشري، فيه "بعث لهم على أن يقتدوا به فيعوذوا بالله عياذه".

ضمانة الإجابة: من "العوذ" إلى "الدرء"

إن الاستعاذة الصادقة لها جواب حتمي من الله. وكما يرينا الإمام السعدي، فإن الله "منعه بلطفه وقيض له من الأسباب" ما حماه، وكان من أعجب هذه الأسباب "مؤمن آل فرعون"، الجندي الخفي الذي خرج من بيت العدو نفسه.
وهذه الحماية هي الدرجة الأولى من الإجابة. أما الدرجة الأعلى، فهي ما يعلمنا إياه النبي ﷺ في دعائه الذي يرويه ابن كثير: "اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم". فالناهض لا يكتفي بطلب "الحماية" (العوذ)، بل يرتقي ليطلب أن يجعله الله هو نفسه "الأداة" التي "يدرأ" بها الباطل ويرده على أعقابه.

خاتمة: دعاء المقاومة

إن الناهض الذي يبدأ بـ "العوذ" الصادق، يمنحه الله "الحماية" بلطفه، ثم يرقيه ليكون "جنديًا" في جيشه. وهذا هو حال كل المستضعفين الصادقين في كل زمان. ودعاؤنا اليوم هو صدى لدعاء موسى: "اللهم إنا نعوذ بك المقاومة في غزة من عدوها"، ذلك المتكبر الذي لا يؤمن بيوم الحساب. اللهم أعذهم بحصنك، وامنعهم بلطفك، واجعلهم الأداة التي تدرأ بها كيد أعدائك في نحورهم. آمين.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.