استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

"فسبح باسم ربك العظيم": كيف يكون التسبيح منطلق القوة في العمران؟


حين يكتمل البرهان، وتتوالى الحجج، وتتظاهر الأدلة، لا يبقى للعقل المنصف والقلب السليم إلا استجابة واحدة: التسليم. والجزء السابع والعشرون من القرآن هو رحلة "حصار معرفي" بالبراهين؛ فيحاصرك بـ "سنن التاريخ" في سورة القمر، وبـ "آيات الكون" في سورة الرحمن، وبـ "حتمية المصير" في سورة الواقعة، حتى يصل بك إلى "آخر المطاف"، إلى اللحظة التي لم يعد فيها مجال للجدال، فلا يضع أمامك إلا نتيجة واحدة حتمية، وخلاصة عملية جامعة:
﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ (الواقعة: 99)
إن هذا الأمر بالتسبيح ليس مجرد ختام لسورة، بل هو "نقطة تحول" ومنطلق لمرحلة جديدة. إنه "النتيجة" التي تلي "الإخبار"، و"الفعل" الذي يولد من رحم "العلم"، وهو "المفتاح" الذي يفتح باب "قوة الائتمان" المطلوبة لمهمة العمران.

"الإخبار" الذي يسبق "الإنشاء"

إن الأمر بالتسبيح لا يأتي من فراغ، بل يأتي، كما يوضح الإمام اطفيش رحمه الله، كـ "عطف إنشاء (فسبح) على إخبار". فكأن المعنى: "إذا علمت ذلك كله، فسبح!". وما هو "ذلك كله"؟ إنه "ملف الإخبار" الكامل الذي قدمه الجزء كله عن "قدرة الله الراسخة"، من إهلاك الأمم إلى خلق الكون. فالتسبيح إذن ليس عبادة عاطفية، بل هو "استجابة معرفية" ويقينية قائمة على الحجة والبرهان.

تشريح "التسبيح العظيم"

إن التسبيح الذي يليق بـ "الرب العظيم" ليس مجرد حركة لسان. وكما يشرح الإمام البقاعي، هو تنزيه شامل "بالاعتقاد والقول والفعل والصلاة وغيرها". وهو ينطلق من أساس عقدي متين، كما يعرفه الشيخ الطوسي، وهو أن الله هو "العظيم الذي كل شيء سواه مقصر عن صفته". وحين يدرك القلب هذا "التقصير" الذاتي لكل ما سوى الله، ينطلق اللسان والقلب والجوارح في "ثناء" جامع، فهو، كما يقول الإمام ابن عاشور، "يتضمن حمدًا لنعمته وما هدى إليه من طرق الخير".

"قوة الائتمان" المطلوبة للعمران

وهنا تأتي "نقطة التحول" العجيبة. فبمجرد أن تختم "سورة الواقعة" بهذا الأمر بالتسبيح، تبدأ "سورة الحديد" مباشرة بـ ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾. فكأن تسبيحك الواعي يفتح لك أذنًا تسمع بها تسبيح الكون كله، فتدرك أنك يجب أن تكون منسجمًا معه.
وهذا "الانسجام"، وهذا "التسليم" الذي يولده التسبيح، هو الذي يؤسس لـ "قوة الائتمان". فأنت تدرك أن القوة والعظمة لله وحده، وأن كل ما في يديك هو "أمانة" أنت "مؤتمن" عليها.
وهذا الرب "العزيز الحكيم" الذي يسبح له كل شيء، هو نفسه الذي أنزل "الكتاب والميزان والحديد".

خاتمة: من "التسبيح" إلى "امتلاك الحديد"

إن "التسبيح" ليس "قعودًا"، بل هو "المنطلق" و"البوصلة" و"صمام الأمان" للقوة. إنه يؤسس للمعادلة النهائية للناهض: "التسبيح" (التسليم القلبي) ← يولد "الائتمان" (الحالة الأخلاقية) ← الذي يؤهل لـ "امتلاك الحديد" (القوة المادية) ← لـ "إقامة القسط" (الغاية العمرانية).
فالناهض الحقيقي لا يسعى لامتلاك "الحديد" أولاً، بل يسعى لتحقيق "التسبيح" أولاً، لأنه يعلم أن القوة التي لا تنطلق من "قلب مسبّح" هي قوة طاغوتية مصيرها إلى الهدم لا العمران.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.