استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

القول الثقيل : كيف يهيئ "قيام الليل" الناهض لحمل الأمانة؟


لقد هُيئ الناهض لأمر عظيم، ومن فطن لهذا الأمر، ربأ بنفسه أن يرعى مع الهمل. وهذه المهمة العظيمة التي تخرجه من قطيع الغافلين هي حمل "الأمانة" وتبليغ الرسالة. والقرآن الكريم يصف هذه المهمة بكلمة واحدة تهز الوجدان وتؤسس للجدية: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ (المزمل:4). وهذا "القول الثقيل" يتطلب "تهيئة" خاصة، وإعدادًا للنفس لا يشبه أي إعداد آخر. وفي سورة المزمل، يقدم القرآن "منهج التهيئة" لهذه المهمة، وهو "قيام الليل"، ليكشف عن العلاقة الجوهرية بين "الخلوة" في الليل و"القوة" في النهار.

تشريح "القول الثقيل" وأبعاده

إن إدراك حجم الأمانة هو أول خطوة للاستعداد لها. و"القول" الذي كُلف به الناهض "ثقيل" بكل المقاييس. إنه، كما قال الإمام مالك بن أنس: "ليس في العلم شيء خفيف... فالعلم كله ثقيل، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة". ويجمع الإمام الطبري أبعاد هذا الثقل فيقول إنه "ثقيل محمله، ثقيل العمل بحدوده وفرائضه". فهو ثقيل عند تلقيه، كما كانت ناقة النبي ﷺ تبرك من شدة الوحي، وثقيل في تطبيقه لأنه، كما يقول البقاعي، "يضاد الطبع ويخالف النفس"، وثقيل في فهمه لأنه "لا يُفهم إلا بمزيد فكر وتصفية سر"، وثقيل في حجته على المخالف.

"ورشة الإعداد": قيام الليل كفعل مقاومة وتجدد

كيف يمكن للنفس البشرية أن تقوى على حمل هذا الثقل؟ يقدم القرآن "ورشة الإعداد" و"منصة الانطلاق": ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ...﴾. إن قيام الليل ليس مجرد عبادة، بل هو فعل "مقاومة" و"تجدد". إنه "استواء وقامة ممدودة إلى السماء، مقاومة ضد الانكباب لغير الله". فالناهض الذي يقوم في ليله لله، هو في الحقيقة يتدرب على أن يمشي في نهاره "سويًا"، رافضًا أن يكون كمن وصفه القرآن في سورة الملك:

﴿ اَفَمَنْ يَّمْشِے مُكِبّاً عَلَيٰ وَجْهِهِۦٓ أَهْد۪يٰٓ أَمَّنْ يَّمْشِے سَوِيّاً عَلَيٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖۖ﴾ (الملك: 22)
إن هذا القيام هو "نقطة صفر" متجددة، "يصعد" فيها الناهض بروحه خارج جاذبية الأرض، ليتلقى النور، ثم "يهبط" مجددًا إلى الواقع بطاقة متجددة. إنه، كما يؤكد البقاعي، "التهجد الذي يعد للنفس من القوى ما به يعالج المشقات".

"ثمرة الإعداد": تحمل المسؤولية الفردية الكاملة

إن الغاية من ورشة التهجد ليست مجرد راحة نفسية، بل هي "بناء الشخصية المسؤولة" القادرة على حمل الأمانة. فالناهض الذي يتربى في هذه المدرسة يدرك "القانون الحاكم" الذي لا استثناء فيه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (المدثر: 38). فيعلم أن قيامه بالليل هو "فك" لرهانه بالعمل الصالح.
وهو يصل إلى ذروة الوعي بمسؤوليته، فيدرك أنه لا يستطيع أن يخدع نفسه، لأنه، كما تقرر سورة القيامة، ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ (15)﴾. فالناهض الذي يتشرب "القول الثقيل" في جوف الليل، هو ناهض "لا يهرب" من مسؤوليته، و"لا يختلق" الأعذار.

خاتمة: "المغزل" الذي ينسج شخصية الناهض

إن "قيام الليل" ليس مجرد عبادة، بل هو "المغزل" الذي ينسج خيوط شخصية الناهض. فهو يفتل "خيط اليقين" بالقول الثقيل، و"خيط الصبر" على ثقل التكاليف، و"خيط العزة" بالقيام لله وحده. فالناهض الذي لا يدخل "ورشة التهجد" بانتظام، سيبقى "منشاره كليلاً"، وغير قادر على حمل "القول الثقيل"، وسيظل معرضًا لخطر "الرعي مع الهمل"، لأنه لم يبنِ القوة الداخلية اللازمة للاستقامة والمسؤولية.



كنب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.