إن الجزء الثامن والعشرين من القرآن هو دستور بناء "الجماعة المؤمنة"، والعزة هي "الثمرة" و"الغاية" لكل مقومات هذا البناء؛ من عدل، وإيثار، ووحدة صف. ولكن هذه "العزة" لا تُبنى في فراغ، بل في خضم "مرجل المحيط" وتدافعاته، وفي مواجهة مباشرة مع "مفاهيم العزة الزائفة" التي ترفعها الجاهلية. وفي قلب سورة المنافقين، تأتي آية عظيمة لـ "تصحيح المفهوم"، و"ترسيخ الميزان"، و"تقديم منهج متكامل" لبناء "العزة الحقيقية" في قلب الناهض.
﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَي اَ۬لْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ اَ۬لَاعَزُّ مِنْهَا اَ۬لَاذَلَّۖ وَلِلهِ اِ۬لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلْمُومِنِينَ وَلَٰكِنَّ اَ۬لْمُنَٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَۖ﴾ (المنافقون: 8)
"صدام الموازين": عزة الوهم في مقابل عزة الحق
تعرض لنا الآية مشهدًا مسرحيًا تتصادم فيه رؤيتان للعالم. فالمنافقون يعلنون أن "الأعز" (وهم هم) سيخرج "الأذل" (وهم الرسول والمؤمنون). إن "ميزان العزة" عندهم هو ميزان مادي بحت، قائم على "الصور" من كثرة عددية ومال ونفوذ. وهو تصور، كما يصفه البقاعي رحمه الله، نابع من "شدة غباوتهم".
وفي مقابل هذا الوهم، يأتي "الفرقان" الإلهي ليضع "ميزان العزة الحق": فالمصدر الأصيل هو ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ﴾، وطريق اكتسابها هو بالانتساب إليه ﴿وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
تشريح "أبعاد العزة" الإيمانية
إن "عزة المؤمنين" ليست مجرد شعور، بل هي عزة متكاملة ذات أبعاد، كما يفصلها الماتريدي رحمه الله، فهم الأعزة لأنهم :
"الأعلى والأجل" (عزة القيمة والمنهج)،
و"الأغلب الأقهر" (عزة الحجة والمآل)،
و"الأقوى والأشد" (عزة القوة الظاهرة التي يخضع لها حتى المنافقون).
"العزة صنو الإيمان": المنهج العملي للبناء
إن تعريف العزة شيء، وبناؤها شيء آخر. ويضع لنا سيد قطب رحمه الله "القانون النفسي" لبنائها:
"فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن... فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة.."
فالعزة إذن "ثمرة" طبيعية لرسوخ الإيمان. وهذا الإيمان الراسخ لا يُبنى إلا بـ "التتلمذ على رسول الله ﷺ" بمنهجه الرباعي الذي تذكره سورة الجمعة:
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...﴾ (الجمعة: 2)
إنها "تجربة شعورية" بالانتماء إلى "الصف العزيز"، وكما يصورها سيد قطب: "وأي تكريم بعد أن يوقف الله... رسوله والمؤمنين معه إلى جواره. ويقول: ها نحن أولاء! هذا لواء الأعزاء".
خاتمة: من "علم" العزة إلى "قولة ربعي"
إن المنافقين "لا يعلمون" كل هذا، لأنهم، كما يقول سيد قطب، "لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل". ولا يفقهون، وعلى الناهض ألا يكتفي بـ "معرفة" مفهوم العزة، عليه أن يتذوق، وعليه أن يفقه، وعليه أن يسعى لـ "بناء مقوماتها" في نفسه وجماعته.
والثمرة الناضجة لهذا البناء، والتجسيد العملي لهذه العزة، تتلخص في "القولة الخالدة" لربعي بن عامر رضي الله عنه وهو يقف في بلاط رستم:
"الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام."
إنها قولة "الناهض العزيز" الذي لا يقف أمام طغاة العصر ليطلب منهم شيئًا، بل ليقدم لهم "التحرير" و"الرحمة" و"العدل"، وهذه هي العزة الحقيقية.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.