استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

كيف يبحر الناهض في قلب العاصفة؟


إن رحلة الناهض في الحياة ليست نزهة في بحيرة هادئة، بل هي إبحار ملحمي لسفينة يقودها ربان واعٍ في عرض محيط هائج. والأمواج التي تضرب سفينته ليست مجرد أنواء طبيعية، بل هي عواصف داخلية وخارجية، تكشف حقيقة أن المعركة التي يخوضها "معركة واحدة" ذات جبهتين. وفي قلب هذا البحر المتلاطم، يقدم القرآن الكريم في قصة غزوة حنين درسًا عمليًا في كيفية تحويل الهزيمة إلى نصر، ويكشف عن "السر الإلهي" للثبات في قلب العاصفة، وهو "السكينة".

"سكون الشلل": تشريح قانون السقوط

تبدأ القصة بتشخيص "قانون السقوط" الذي قد يصيب حتى أفضل الجماعات. ففي يوم حنين، لم تكن الهزيمة الأولية إلا نتيجة طبيعية لـ "شق صغير" تسلل إلى القلوب، وهو ما تكشفه الآية بوضوح:

﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ (التوبة: 25)

إنه "العُجب" بالأسباب المادية، وهم "الاستغناء" عن الله الذي هو أس كل هزيمة. وحين انهار هذا السبب الوهمي، كانت النتيجة زلزالاً نفسيًا عنيفًا ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ﴾، انتهى إلى انهيار عملي تام ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾. هذا هو "سكون الشلل"، سكون ينبع من الخوف وفقدان التوازن، وهو نقيض الهدوء والقوة.

"سكينة التركيز": ماهية العلاج الإلهي وجوهره

في لحظة الحضيض هذه، وبعد أن فر من فر، لم يأتِ الأمر الإلهي بالعودة مباشرة، بل بدأ العلاج من "الداخل"، من "القلوب" المضطربة. يقول تعالى واصفًا تدخله الرحيم:

﴿ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا...﴾ (التوبة: 26)

"السكينة" هي العلاج. ولكن ما هي؟ إنها، كما يقول الطبري، "الأمنة والطمأنينة". وهي، كما يصفها الواحدي بلطف، "ما يسكن إليه القلب من لطف الله ورحمته". وترتقي في تعريف القشيري العرفاني لتكون "ثلج القلب عند جريان حُكْم الربِّ... وخمودُ آثار البشرية بالكلية". إنها ليست مجرد هدوء، بل هي "حالة توحيد" وتجربة شعورية مباشرة بلطف الله، وهي "سكينة التركيز" التي تهيئ للفعل الراشد.

من السكينة إلى "الفعل الراشد" في "المسافة صفر"

إن وجود "مساحة بين الفعل وردة الفعل" يمكن للإنسان أن يختار فيها استجابته هي "قاعدة إنسانية" مشتركة. ولكن "الإيمان بالله يزيدها قوة"، وذلك بأن يملأ هذه المساحة بـ "السكينة" الإلهية، فيرتقي بـ "رد الفعل" من مستوى الخوف الطبيعي إلى مستوى "الفعل الراشد" الخارق للعادة. وهذا ما تجلى في أربع صور خالدة:

الأصل التأسيسي (الغار): حيث نزلت السكينة على "ثاني اثنين" والعدو ببابهما، فكان "الفعل الراشد" هو اليقين الهادئ ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾.

التطبيق الجماعي (بدر): حيث نزلت على "قلة أذلة"، فكان "الفعل الراشد" هو الثبات وتحقيق النصر.

التجلي المعاصر (غزة): حيث نراها تتنزل على "مقاوم أعزل" يقترب إلى "المسافة صفر" من آلة الموت، فيكون "فعله الراشد" هو زرع العبوة بهدوء وتركيز.

الدرس العملي (حنين): وهو ما تشرحه آيتنا، حيث نزلت على "جيش منهزم"، فكان "الفعل الراشد" هو العودة من الفرار إلى الإقدام. وكما يقول الإمام القرطبي: إن السكينة "تذهب خوفهم، حتى اجترأوا على قتال المشركين بعد أن ولوا".

إن الترتيب الإلهي دائمًا واحد: إصلاح الداخل أولاً بنزول السكينة، ثم يأتي المدد الخارجي ﴿وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾.

خاتمة: كيف تكون مهبطًا للسكينة؟

إن "الهدوء" الظاهري ليس كله سواء، فشتان بين "سكون الشلل" الذي هو قناع الجبن، و"سكينة التركيز" التي هي عطاء اليقين. والناهض مدعو لأن لا "يتصنع" الهدوء، بل أن "يهيئ" قلبه ليكون أهلاً لنزول السكينة، وذلك بصدق التوكل، والافتقار الكامل لله، ومحاربة "العُجب" بالأسباب. فالقائد الحقيقي هو من يثبت في قلب العاصفة ليكون "مهبطًا للسكينة"، فإذا نزلت عليه، سرت فيمن حوله، فتحول شللهم إلى جرأة، وهزيمتهم إلى نصر.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.