استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

قانون الوفرة: كيف يحرر "منظار الباقيات الصالحات" الناهض من سجن الندرة؟


في أعماق كل نفس بشرية، وفي قلب كل مشروع نهضوي، تدور معركة صامتة وحاسمة، ليست مع عدو خارجي، بل بين "قانونين" أو "عقليتين" تتنازعان السيادة على القلب وتوجهان مصير الإنسان. إنه الصراع بين "قانون الندرة" الذي يولد الخوف والشح والحسد، و"قانون الوفرة" الذي يثمر الثقة والكرم والأمل. وإن الجزء السادس عشر من القرآن، بسياقه الجامع بين الكهف ومريم وطه، هو "مدرسة" متكاملة لترسيخ "عقلية الوفرة" في نفس الناهض، وفي قلب هذه المدرسة تأتي آية عظيمة من سورة مريم لتضع "القانون المركزي" لهذه الوفرة:

﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ۗ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا﴾ (مريم: 76)

"منظار الفاني" وفلسفة الكنز المتناقص

إن "عقلية الندرة" تنشأ حين يحصر الإنسان رؤيته في "منظار الفاني"، أي في عالم الأشياء المادية المحسوسة من مال ومناصب وقوة، وهو عالم بطبيعته "محدود وإلى الزوال". من ينظر بهذا المنظار، يحكم على نفسه بالعيش في "سجن" الخوف من النقص، فيتبنى "فلسفة الكنز المتناقص": لديه عشرة دراهم، فيكنزها خوفًا من المستقبل، فلا يستثمرها، فتبدأ بالتناقص بفعل الزمن والإنفاق الاضطراري، حتى تصل إلى الصفر.

"قانون الزيادة" و"منظار الباقيات الصالحات"

في مقابل هذا السجن، تقدم الآية "مفتاح الحرية"، وهو "قانون الزيادة" الإلهي. وكما يوضح الإمام الطبري، فإن آلية هذه الزيادة تتم عبر "التفاعل الإيجابي" مع أوامر الله، فكل "عمل" بـ "هدى" جديد هو بحد ذاته "زيادة" في الهدى. وهذا القانون يستند إلى اليقين بهوية الرب الذي وصفه موسى عليه السلام: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ﴾ (طه: 50). فالذي وسع عطاؤه كل الخلق، تتسع خزائنه لزيادة هداية المهتدين.

وهذا القانون يحرر "منظار" المؤمن ليرى ما هو أبعد من الفاني، ليرى "الباقيات الصالحات". وقد جاءت الآية، كما يبين الإمام السعدي، لـ "تصحيح علامات الفلاح"، والرد على الظالمين الذين جعلوا "المال والولد" علامة على حسن الحال. فالعلامة الحقيقية هي "العمل بما يحبه الله ويرضاه". ويضع الإمام البقاعي الأمر في ميزان بلاغي بديع، فيقابل بين "مدّ" الله للظالمين في الدنيا (استدراجًا لهوانهم)، و"زيادته" للمؤمنين في الهدى (إكرامًا لهم).

"الأعمال الولود المنتجة": ديناميكية الوفرة

إن "الباقيات الصالحات" هي "الاستثمار" الحقيقي في عالم الوفرة. إنها "أعمال ولود ومنتجة"؛ فالكلمة الطيبة تلد كلمة طيبة، والصدقة تنتج بركة، والعلم ينتج أجيالاً. وهي تمامًا كمن استثمر دراهمه العشرة في "عمل" صالح، فأصبح "ينتج منه كل يوم درهمًا ودرهمين، وينفق منه، ويبقى الوفير منه".
وهذه "الباقيات"، كما يفصلها الإمام السعدي، ليست مجرد أذكار، بل هي منهج حياة شامل: "...من صلاة، وزكاة... وإحسان إلى المخلوقين، وأعمال قلبية وبدنية". إنها كل عمل صالح يخدم "العمران" بنية صادقة.

خاتمة: حرر منظارك تتحرر حياتك

إن "الوفرة" و"الندرة" ليستا في "كمية ما نملك"، بل في "المنظار" الذي نرى به الحياة. والقرآن يدعو الناهض إلى "تحرير منظاره" من الاقتصار على "الفاني"، ليكتشف عالم "الوفرة" اللامحدود في "الباقيات الصالحات". فالناهض الذي يعيش بـ "قانون الوفرة"، هو الذي يستطيع أن يبني "عمرانًا" حقيقيًا، لأنه يبني بـ "رأس مال" لا ينفد، ويستثمر في تجارة رابحة مع رب كريم لا يضيع أجر من أحسن عملاً. وهذا هو جوهر المنهج القرآني الذي أُرسل رحمة وسعة، لا ضيقًا وشقاء: ﴿طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2)﴾ (طه: 1-2).


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.