استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… فريضة إصلاح تحفظ المجتمعات


في خضم التحولات الفكرية التي يشهدها عالمنا اليوم، تعلو بعض الأصوات المنادية بإلغاء أو تهميش شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحت شعار "الحرية الشخصية". ويُراد بهذه الدعوات أن تُفسح المساحات للسلوكيات الفردية دون أي توجيه أو تقويم، وكأن القيم الدينية والاجتماعية باتت عبئًا يُعرقل "التحرر" المزعوم.

لكن النظرة المتزنة تستدعي منا إعادة التذكير بأهمية هذه الشعيرة، التي لم تكن يومًا أداة قمع، بل كانت دومًا فريضة ربانية، ومبدأ حضاريًا، ومقومًا أساسًا في صلاح الأمم.

أولًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… جوهر رسالة الأنبياء

لم يكن هذا المبدأ عرضًا عابرًا في مسيرة الرسالات، بل كان من صميم أهداف النبوة، قال تعالى:  
{ ٱلَّذِینَ إِن مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُوا۟ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡا۟ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ }
[سُورَةُ الحَجِّ: 41].

بل إن الله جعل هذه الخصلة مفتاحًا لنهضة الأمة:  
{ كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَـٰبِ لَكَانَ خَیۡرࣰا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ }
[سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: 110]  

فبقدر تمسك الأمة بهذه الشعيرة، تستحق خيريتها، وإذا تخلّت عنها، أضاعت رسالتها.

ثانيًا: الحرية في الإسلام منضبطة بالحق

الحرية الشخصية لا تعني انفلاتًا أخلاقيًا ولا اعتداء على حقوق الآخرين. الشريعة الإسلامية قدّرت حرية الإنسان، لكنها قيّدتها بعدم الإضرار بالنفس أو بالغير. وقد ورد في الحديث:  
"لا ضرر ولا ضرار".

فحين يُمارَس منكر علنًا في الطرقات أو على وسائل الإعلام باسم الحرية، فهو تجاوز لحرية المجتمع بأسره. لذلك، كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آلية توازن بين الفرد والمجتمع، تنبع من حب الخير للناس، لا من التسلّط عليهم.

ثالثًا: تعطل الشعيرة… بوابة الهلاك

التاريخ يذكرنا أن أولى خطوات الانهيار المجتمعي تبدأ حين تسكت الأمة عن الإنكار. وقد قال تعالى:  
*{ لُعِنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۢ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِیسَى ٱبۡنِ مَرۡیَمَۚ ذَ ٰ⁠لِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ یَعۡتَدُونَ }
[سُورَةُ المَائـِدَةِ: 78]
ما علة اللعن الذي حل بهم 

{ كَانُوا۟ لَا یَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرࣲ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُوا۟ یَفۡعَلُونَ }
[سُورَةُ المَائـِدَةِ: 79]

فقد سكتوا عن المنكر، فتفشى، فاستحقوا اللعنة.
وفي الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما 
عن النبيِّ ﷺ قَالَ: "مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا"
 رواهُ البخاري.
  
وفيه بيان أن عدم منع المنكر هلاك للجميع.

رابعًا: كيف نمارس هذه الشعيرة اليوم؟

الأمر بالمعروف في هذا العصر يحتاج الحكمة والرفق، فلا يكون بالتجريح أو التسلط، بل بالنصيحة المخلصة والقول اللين، امتثالًا لقوله تعالى:  
{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}.

يمكن أن يُمارس عبر:

- النصح الفردي بالحسنى  
- الحملات المجتمعية الراقية  
- مناهج التعليم  
- الإعلام الواعي  
- القدوة الصالحة  

خامسًا: الأمر بالمعروف… ضمان لبقاء الأخلاق

إذا تخلى المجتمع عن التوجيه، فبمَ يضبط سلوك أفراده؟ ومن يحفظ كرامة الضعفاء؟  
إن إنكار المنكر وحث الناس على المعروف يُرسي ثقافة الاحترام والمسؤولية والكرامة. وهو أداة تقويم جماعية تحمي المجتمعات من الانهيار القيمي والانفلات الأخلاقي.

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس شعارًا ماضويًا، بل هو نظام إصلاحي حي، يتجدد في كل عصر، ويُصاغ وفق أدوات كل زمن. وفي وقت يُهدد فيه الفساد الأخلاقي والاستلاب الثقافي المجتمعات، يجب أن نتمسك بهذه الشعيرة، بحكمة ورحمة، لتبقى أمتنا على درب الصلاح.

فلنحذر أن نكون أمة صامتة عن الباطل، متفرجة على الانهيار.  
ولنعتز بأن نكون تلك الأمة التي تأمر بالخير، وتنهى عن الفساد، وتضيء الطريق للإنسانية.


د.عائشة مياس

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.