استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المقال 21: خيانة المفاهيم: كيف يؤدي 'نبذ الكتاب' إلى انهيار العمران؟


إن الأمم والحضارات ليست مجرد أبنية وأشخاص، بل هي في جوهرها "شبكة مفاهيم". وهذه الشبكة، التي تتكون من قيم وعقائد وتصورات، هي "العقل الباطن" الذي يحرك الأمة ويوجه سلوكها. ومن هنا، فإن أخطر جريمة يمكن أن ترتكبها "نخبة" أي أمة، ليست الخيانة السياسية أو العسكرية فحسب فما هي إلا تجلي من تجليات "الجريمة الصامتة" التي تسمم "عقل" الأمة وتدمرها من الداخل: إنها "خيانة المفاهيم".
ويقدم لنا القرآن الكريم، في قلب سورة البقرة، "المشهد التأسيسي" و"التجسيد الأول" لهذه الخيانة، ليكشف عن "مسار الانهيار" الذي يبدأ من "نبذ الكتاب" وينتهي حتمًا بـ "تدمير العمران".
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 101)

"نبذ الكتاب": من خيانة "المفهوم الأم" إلى تشويه الشبكة

إن "كتاب الله" هو مصدر "المفهوم الأم" (مفهوم التوحيد)، وهو المنبع الذي تُستقى منه "الخيوط القوية الدقيقة" التي تُنسج منها "شبكة المفاهيم" الصحيحة. وفعل "النبذ" الذي قامت به "النخبة العالمة" من أهل الكتاب لم يكن مجرد ترك، بل هو، كما يصفه الأستاذ سيد قطب، "حركة عنيفة... تنضح بالكنود والجحود... وتفيض بسوء الأدب والقحة".
إن "نبذ الكتاب" هو "خيانة" مباشرة لـ "المفهوم الأم"، وهذا يؤدي حتمًا إلى "تشويه" كل "الشبكة المفاهيمية" التي هي "عقل" الأمة. فالجريمة، كما يوضح الطبري، لم تكن عن جهل، بل عن "علم منهم به ومعرفة"، وكان دافعها هو "الحسد والبغي".

من "تشويه المفاهيم" إلى "انهيار الأخلاق"

إن "شبكة المفاهيم المشوهة" لا يمكن أن تنتج إلا منظومة أخلاقية منهارة. فالعقل الذي خان "مفهوم" الحق الأعلى، لا يجد حرجًا في خيانة القيم الفرعية.
"تشويه" مفهوم "العزة" ينتج "كبرًا" وحسدًا.
"تشويه" مفهوم "الغنى" ينتج "جشعًا" وبيعًا للدين بثمن بخس.
"تشويه" مفهوم "القوة" ينتج "ظلمًا" وبطشًا.
وهكذا، تتحول "الأخلاق" من "ثوابت" ربانية إلى "متغيرات" تابعة للمصلحة والهوى، ويصبح المجتمع غابة من المصالح المتصارعة.
من "انهيار الأخلاق" إلى "تدمير العمران"
وهنا نصل إلى الأثر النهائي لهذه الخيانة. فالأخلاق المنهارة لا يمكن أن تبني "عمرانًا" حقيقيًا. "النخبة الخائنة للمفاهيم" تصبح "معول هدم" لا "أداة بناء". والمجتمع الذي تحكمه "مفاهيم" مشوهة، يتحول إلى "ساحة صراع"، كما يصفهم القرآن في موضع آخر: ﴿...ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ...﴾.
وبدلاً من "العمران" القائم على "العدل" و"الثقة"، يحدث "الإفساد في الأرض"، وتتآكل "أسس" الحضارة من الداخل، حتى لو بدت صروحها المادية شامخة، فهي كـ ﴿بَيْتِ الْعَنكَبُوتِ﴾، جميلة في نسجها، ولكنها واهنة في أساسها.

خاتمة: "إنما الأمم الأخلاق..."

إن "آية النبذ" هي "تشريح" دقيق لـ "سنة الانهيار الحضاري". وهي تؤكد ما قاله الشاعر: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا". ويزيد القرآن الأمر عمقًا، فيبين لنا أن "الأخلاق" ليست إلا "تجليًا" لـ "شبكة المفاهيم" التي تحكم الأمة.
فالحفاظ على "العمران" يبدأ من "أمانة المفاهيم"، وهدم العمران يبدأ من "خيانة المفاهيم". ومهمة الناهض الأولى هي أن يكون "حارسًا أمينًا" على "شبكة المفاهيم القرآنية"، ليحفظ بذلك "عقل" الأمة، و"أخلاقها"، و"عمرانها".


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.