استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المقال22: معركة المفاهيم : قراءة في آية "ولن ترضى عنك" لفهم شروط النهضة

مقدمة: آية كاشفة لا آية يأس

في القرآن الكريم، توجد آيات منارات كاشفة، تهدي الساري في ليلته وتكشف له طبيعة البحر الذي يبحر فيه، وتضاريس الشواطئ التي يرنو إليها، والقوانين الخفية التي تحكم حركة الأمواج. ومن هذه الآيات المحورية، التي تعد بمثابة "كشّاف استراتيجي" للأمة الناهضة، قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَلَن تَرْض۪يٰ عَنكَ اَ۬لْيَهُودُ وَلَا اَ۬لنَّصَٰر۪يٰ حَتَّيٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْۖ قُلِ اِنَّ هُدَي اَ۬للَّهِ هُوَ اَ۬لْهُد۪يٰۖ وَلَئِنِ اِ۪تَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم بَعْدَ اَ۬لذِے جَآءَكَ مِنَ اَ۬لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اَ۬للَّهِ مِنْ وَّلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍۖ﴾ (البقرة: 119).

إن الفهم السطحي لهذه الآية قد يورث شعورًا باليأس أو دعوة للانغلاق والقطيعة. لكن التدبر العميق يكشف أنها ليست كذلك، بل هي دعوة لبناء "الوعي" لا لتكريس "الكراهية"؛ هدفها تحصين الذات من الذوبان، لا الانعزال عن العالم. إنها آية تشرح "قانونًا" في المواجهة الحضارية، وفهم هذا القانون هو أول شرط من شروط النهضة.

 تشريح القانون : معادلة الرضا المستحيل

تقدم الآية بوضوح وصراحة "معادلة" لا تقبل الجدل: إن شرط "الرضا الكامل" الذي قد تسعى إليه بعض النفوس المنهزمة أو المبهورة بالآخر، له ثمن واحد فقط وهو التبعية الكاملة والانسلاخ التام عن الهوية: حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ.

هذا القانون الإلهي يجد تفسيره في قانون اجتماعي دنيوي شخصه فيلسوف التاريخ ابن خلدون حين قال: "المغلوب مولعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب". فهزيمة الروح تولّد حالة من "الولع" بالآخر، وتخلق "قابلية للتبعية"، وتدفع المغلوب دفعًا للسعي نحو تحقيق هذا الشرط المستحيل، ظنًا منه أن في نيل رضا الغالب طوق النجاة. وقد صور النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحالة من التقليد الأعمى بصورة بليغة تهز الوجدان حين قال: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ". إنها مطابقة تصل إلى حد العبث، وتوضح أن التبعية حين تستحكم، فإنها تلغي العقل النقدي.

ويزيد الإمام الطبري من كشف استحالة هذا الرضا، فيلفت النظر إلى أن "الملة" التي تُدعى لاتباعها ليست كتلة واحدة متجانسة، بل هي أهواء متناقضة، فيقول بوضوح: "وإذا لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل، فالزم هدى الله الذي لجمع الخلق إلى الألفة عليه سبيل".

ميدان المعركة الحقيقي : صراع المفاهيم

إذا كان السعي لرضاهم مستحيلاً، فأين يكمن ميدان المعركة الحقيقي؟ إنه ليس على الأرض بالدرجة الأولى، بل في العقل والقلب. إنها، كما يصفها سيد قطب بعبارة جامعة: "حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى... إنها معركة العقيدة". أو بتعبير أدق، "معركة مفاهيم مستعرة".

فالمفاهيم هي بذور الواقع؛ فـ"المفهوم الراشد ينضج ليكون قيمة، والقيمة تتجذر لتشكل العقيدة". من ينجح في السيطرة على مفاهيمك، سيتحكم في قيمك، ومن يتحكم في قيمك، سيصوغ لك مصيرك. ولذلك، فإن الهدف الاستراتيجي للخصم ليس فقط "خراب البنيان"، بل هدفه الأعمق هو "منع الذكر". فالمسجد ليس مجرد حجر، إنه "مصنع المفاهيم" و"ورشة القيم". وما نشاهده اليوم في غزة من هدم ممنهج للمساجد، ليس استهدافًا للحجر، بل هو محاولة يائسة لتجفيف منابع الذكر، وتدمير المصنع الذي ينتج الإنسان الصامد.

حصون الناهض : من المناعة إلى المبادرة

أمام هذا القانون الكاشف، وهذه المعركة المستعرة، لا يتركنا القرآن بلا سلاح، بل يقدم لنا منظومة متكاملة من "الحصون":

الحصن الفكري (درع العلم): ويتمثل في الأمر الإلهي : قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ. هذا ليس شعارًا يُرفع، بل هو إعلان استقلال حضاري، وبناء مرجعية عليا وثابتة، تمنحنا "البوصلة" التي نقيس بها كل ما يرد إلينا.

الحصن الروحي (وقود اليقين) : وهذا ما عبر عنه الإمام القشيري بكلمات تهز الوجدان، مخاطبًا قلب المؤمن: "لا تبالِ برضاء الأعداء بعد ما حصل لك رضانا". إن التحقق بمقام "الكفاية بالله" هو الضربة القاضية لعقدة المغلوب، ويتجسد في ميثاق الولاء الخالص: "كُنْ بِنا لَنَا... فإنك بنا ولنا".

الحصن العملي (إعادة بناء المصانع): إذا كان العدو يسعى لخراب "مصانع المفاهيم"، فإن مهمة الناهض الأولى هي إعادة بنائها وتشغيلها؛ بإحياء كل "مساحات الذكر" -المسجد، والأسرة، والمحاضن التربوية- لتكون قادرة على إنتاج المفاهيم الراشدة وتحصين الأجيال من الداخل.

الخاتمة : من التبعية إلى الشهود الحضاري

إن آية "ولن ترضى عنك" ليست نهاية الطريق، بل هي بدايته. إنها دعوة للتحرر من سجن البحث عن رضا الآخر، والانطلاق لأداء المهمة الكبرى: مهمة "الشهادة على الناس" بمشروع الهدى الإلهي. إن فهم هذا القانون الحضاري هو الخطوة الأولى نحو نهضة حقيقية، قائمة على وعي واثق، وعزة راسخة، وفعل بنّاء ومؤثر.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.