استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

فن الفِلترة: مهارة إنقاذ العقل في عصر الضجيج



في زمنٍ مضى، كان الإنسان بحاجة إلى سيفٍ ودرعٍ ليحمي نفسه من الوحوش الضارية في الغابات. أما اليوم، فإننا نعيش في غابةٍ من نوعٍ آخر، غابةٍ من الأصوات، والصور، والأفكار، والمعلومات المتدفقة بلا توقف. الوحوش اليوم ليست أنيابًا ومخالب، بل مقاطع قصيرة، منشورات، أخبار مُضلِّلة، وشعارات براقة.
إذا أردت النجاة، فالسيف الذي تحتاجه اليوم هو فن الفِلترة.

ما هو فن الفِلترة؟

الفِلترة ليست مجرد تجنّب بعض المنشورات أو كتم الإشعارات. إنها مهارة عقلية أعمق بكثير؛ مهارة أن تملك نظامًا داخليًا يلتقط الهراء قبل أن يتسلل إلى عقلك، كما أشار هيمنجواي بذكائه حين قال:
"طوّر جهازًا داخليًا لاكتشاف الهراء".

الفِلترة هي القدرة على التمييز بين ما يُغذّي عقلك وما يُسمّمه، بين ما يضيف لك قيمة وما يسرق منك الوقت والطاقة. هي حارس عقلك في عصر الطوفان الرقمي.

لماذا أصبحت الفِلترة ضرورة؟

في الماضي، كان التحدي هو نقص المعلومات. اليوم، التحدي هو التخمة المعلوماتية. نحن نغرق في محتوى متاح بلا حدود: مقاطع قصيرة، ريلز، تيك توك، تغريدات، عناوين صاخبة. ومع هذا الطوفان، ظهرت آفة التورط العقلي: أن يستسلم الإنسان للتيار، فيستهلك كل ما يُعرض أمامه لمجرد أنه متاح.

لكن وراء هذه السهولة فخٌّ خطير؛ إذ لا شيء مجاني في عالم المنصات. كل دقيقة تقضيها، هناك من يربح منك: انتباهك هو السلعة. وكلما انشغلت بالتفاهات، تآكلت قدرتك على التفكير العميق واتخاذ القرارات السليمة.

الإعجاب ليس معيارًا

القرآن نفسه نبّهنا إلى مبدأ نقدي عميق حين قال: {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ}، ليخبرنا أن الإعجاب ليس بوصلَة. ما يدهشك في لحظة قد يكون فارغًا، وما يجذبك بصريًا قد يزرع فيك أفكارًا تافهة. الجاذبية البصرية لا تعني المصداقية الفكرية.

شوبنهاور وفن عدم القراءة

الفيلسوف شوبنهاور كتب قبل 150 عامًا عن مهارة قريبة من الفِلترة، سماها فن عدم القراءة:
"الشرط المسبق لقراءة الكتب الجيدة هو عدم قراءة الكتب السيئة، فالحياة قصيرة."
هذا الكلام اليوم يصلح للشاشات أكثر من الكتب. إذا أردت أن تمنح عقلك غذاءً نقيًا، عليك أن تمنع عنه السموم أولًا.

مؤشرات الهراء: كيف تكتشفه؟

لكي تتقن فن الفِلترة، تحتاج إلى حسّاسات معرفية تعمل في أجزاء من الثانية لتكشف التضليل والتفاهة. إليك بعض المؤشرات:

الوعود السريعة: "كيف تصبح غنيًا في أسبوع؟" هذه صيغة سموم فكرية.

الإثارة المفرطة: محتوى يعتمد على الصدمة لجذبك، لا على القيمة.

غياب المراجع: كل كلام بلا دليل هو ادعاء لا يستحق وقتك.

الإحباط المقنّع: أي فكرة تتركك عاجزًا وسلبيًا هي عبء، لا معرفة.

كيف تحرس عقلك؟ (خطة عملية)

  1. اسأل دائمًا: من؟ ولماذا؟ من وراء هذا المحتوى؟ ما هدفه؟ هل يريد أن يعلمني أم يستهلكني؟
  2. اعتمد قاعدة الشاطبي: "كل علم لا يفيد عملًا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه". أي فكرة لا تُثمر سلوكًا أو تنفع الناس، تجاهلها.
  3. طبّق قانون المآلات: قبل أن تتابع أو تشاهد، اسأل: إلى أين سيأخذني هذا؟ إلى همة للفعل أم إلى إحباط؟
  4. ضع وقتًا للهوامش: خصص وقتًا محددًا للتصفح العشوائي، وأغلق المنصات بعده.
  5. استثمر في التفكير النقدي: هذا هو حارس العقل الحقيقي؛ لا تقبل فكرة إلا بعد تمحيص.

فن الفِلترة.. فنّ النجاة

في النهاية، الفِلترة ليست ترفًا فكريًا؛ إنها مهارة بقاء في زمن المنصات. إما أن تختار أنت ما يدخل إلى عقلك، أو ستترك الخوارزميات تختار لك، وحينها ستدفع الثمن من وعيك، وطاقتك، ومستقبلك.

احفظ هذا الأصل:
ليس كل ما يلمع ذهبًا، وليس كل ما يثير إعجابك يستحق مكانًا في عقلك.
طوّر حواسك النقدية، وحافظ على نقاء فكرك. ففي زمن الضجيج، الفِلترة هي الحرية.




د.سامر الجنيدي_القدس

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.