عمود الرشد وملة إبراهيم : قراءة في سر الاصطفاء الإبراهيمي

لا يقدم القرآن الكريم قصة أبينا إبراهيم عليه السلام كحدث تاريخي يُروى، بل يقدمها كـ "نموذج أصلي" ومنهج عمل متكامل لتأسيس النهضة وصناعة القادة. وفي هذا المقطع من سورة البقرة، لا تُعرض فضائل إبراهيم بشكل متناثر، بل تُبنى كبرهان ساطع على قضية مركزية هي بمثابة "العمود الفقري" الذي يرتكز عليه السياق كله، وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَّرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُۥۖ وَلَقَدِ اِ۪صْطَفَيْنَٰهُ فِے اِ۬لدُّنْي۪اۖ وَإِنَّهُۥ فِے اِ۬لَاخِرَةِ لَمِنَ اَ۬لصَّٰلِحِينَۖ﴾ (129)

. هذا المقال هو محاولة للغوص في أعماق هذه الملة، لنفهم لماذا كان الإعراض عنها هو السفه بعينه، وكيف تقدم لنا خارطة طريق واضحة لكل مشروع نهضوي.

إن النظر إلى آية ﴿وَمَن يَرْغَبُ...﴾ على أنها مجرد نتيجة ختامية هو فهم قاصر. إنها في الحقيقة "العمود الفقري" والمبتدأ المنطقي الذي تأتي بقية الآيات كشرح وبرهان عليه. وسر ذلك، كما يوضح الإمام ابن عاشور، يكمن في البلاغة القرآنية التي عدلت عن "فاء" السببية إلى "واو" الاستئناف، وذلك "ليكون مدلول هذه الجملة مستقلاً بنفسه"، فتتحول من مجرد نتيجة إلى قاعدة كلية وحكم قاطع. وهذا الحكم ليس هيناً، فهو يصف المعرض عن هذه الملة بالسفه، وليس أي سفه، بل هو سفه متعمد تمتهن به الذات وتحتقر نفسها. إنه كما يصفه الحرالي: فعل من "استغرقت السفاهة ذاته وكليته وكان بدء ذلك وعاديته من جهة نفسه"، لأنه أعرض عن منهج يصدّقه العقل وتثبته التجربة.

أول سبب يجعل الإعراض عن هذه الملة سفهاً، هو أنها طريق المجد الذي لا يُنال إلا باستحقاق، عبر النجاح في الاختبارات الإلهية: ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾. فالإمامة والقيادة في هذا المنهج ليست منحة مجانية، بل هي "عهد" لا يُنال إلا بعد إثبات الجدارة: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾. وهذا الاصطفاء الإلهي لم يكن عشوائيًا، بل هو شهادة جدارة، فالله تعالى كما يقول البقاعي {ولقد اصطفيناه في الدنيا} بصيغة "الافتعال" التي تدل على "التعمد والقصد". فالإعراض عن ملة إبراهيم هو إعراض عن طريق الصفوة المختارين الذين صنعتهم الابتلاءات وصقلتهم المحن.

السبب الثاني لكمال هذه الملة، أنها ليست طقوسًا ولا أفكارًا مجردة، بل هي مشروع متكامل له "قبلة واحدة" جامعة ذات بعدين. أما ظاهر القبلة، فهو بناء المركز المادي ﴿الْبَيْتِ﴾، الذي لم يبقَ أثرًا تاريخيًا، بل امتدت روحه ورسالته لتصبح بيوت الله في الأرض كلها امتدادًا لبيته الحرام. وأما باطنها، فهو تأسيس المنهج التربوي بالدعاء بالرسول الذي يتلو ويزكي ويعلم، وهو الدعاء الذي استجيب في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان الوحيان (القرآن والسنة) هما الامتداد الحي لدعاء إبراهيم. وهذا الكمال يجعلها منبع الأنوار، حتى قال الإمام القشيري في وصفها: "إذ ليست الأنوار بجملتها إلا مقتبسة من نوره". وتتجلى وحدة هذه القبلة الممتدة في الصلاة، حين نطبق أمر النبي صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فنوجه الجسد إلى ظاهر القبلة (الكعبة وامتدادها في مساجدنا)، والروح إلى باطنها (الأسوة النبوية التي هي امتداد دعاء إبراهيم).

السبب الثالث هو جوهرها البسيط والعميق: الاستسلام الكامل لرب العالمين: ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وهو قمة التحرر من كل عبودية أخرى. وهذه الملة ليست مشروعًا فرديًا ينتهي بموت صاحبه، بل تتحول إلى "وصية" خالدة تضمن امتداد المشروع عبر الأجيال: ﴿وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ... فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾. فالوصية بالإسلام هي الوصية بالاستسلام للقبلة الواحدة الجامعة بظاهرها الممتد وباطنها الحي. والإعراض عنها هو اختيار للعبودية بدل الحرية، وللانقطاع بدل الخلود في سلسلة مباركة.

لقد رأينا كيف أقام القرآن الحجة الدامغة على أن الإعراض عن ملة إبراهيم هو السفه بعينه. وعلى الناهض المعاصر أن يستلهم هذا المنهج، فلا يفصل في مشاريعه بين "البناء الظاهر" للمؤسسات، و"البناء الباطن" للأرواح. وأن يجعل غايته تحقيق "رتبة الصلاح" التي هي أسمى وسام ناله الخليل، ليكون بحق من ورثة إبراهيم، لا ممن سفه نفسه ورغب عن ملته.

كتب حسان الحميني 

والله الموفق.