استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

من دراسة الواقع إلى خلق الواقع: رؤية للنهوض الإسلامي


حين نتأمل خطاب النهضة في العالم الإسلامي، نجد أن معظم المفكرين والباحثين ينطلقون من سؤال: ما هو واقعنا؟ ثم يتبعونه بالتشخيص: لدينا تخلف اقتصادي، وامتنان حضاري للغرب، وتقاليد تعيق الفاعلية، وذهنية استهلاكية لا إنتاجية. هذا المسار التحليلي مهم بلا شك، لكنه لا يكفي وحده.
فالتحليل، مهما كان دقيقًا، يظل حبيس الواقع القائم، لا يتجاوزه. بينما النهضة الحقيقية لا تقوم فقط على فهم الواقع، بل على خلق واقع جديد، ينبع من رؤيتنا ومنظومتنا القيمية.

المستورد والممكن: ساعات العمل مثالًا

لنأخذ مثال "ساعات العمل".
النموذج العالمي اليوم قائم على بدايته من التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساءً. هذا النمط نشأ في بيئة غربية لها ظروفها الخاصة: ليل طويل في الشتاء، عادات اجتماعية مختلفة، وأولويات اقتصادية محددة.
لكن نحن المسلمين نملك خصوصية إيمانية وزمنية لا نجدها عند غيرنا: صلاة الفجر.
فلماذا نصرّ على استيراد جدول عمل لا يناسبنا؟
لو بدأ يوم العمل عند السادسة صباحًا – بعد صلاة الفجر – لانتهى مع الثانية ظهرًا مثلًا. بهذا الترتيب:

نكون أكثر إنتاجية في الساعات الأولى من النهار، حيث البركة والنشاط.

نعود إلى بيوتنا قبل العصر، فنحقق توازنًا بين العمل والأسرة والراحة.

نعيد تشكيل مفهوم "النهار العملي" بما ينسجم مع قيمنا وظروفنا المناخية والاجتماعية.


إن مجرد طرح هذا التغيير يُظهر الفرق بين عقلية التكيف مع الواقع، وعقلية خلق الواقع. الأولى تبحث عن كيفية التأقلم مع النمط المستورد، بينما الثانية تنشئ نمطًا جديدًا يلبي حاجاتنا ويعبر عن هويتنا.

خلق الواقع لا يعني القطيعة الكاملة

قد يقول قائل: وهل نستطيع أن نلغي القوانين الدولية وساعات التجارة العالمية؟
الجواب: لسنا مطالبين بقطع الجسور مع العالم، لكننا مطالبون بأن نؤسس لنمط أصيل، ثم نبتكر آليات للتعامل مع الآخر.
مثلًا:

الشركات العالمية تملك فروقًا في التوقيت، لكنها تنسق بينها عبر فرق متعددة الجنسيات تعمل في ساعات مختلفة.

الجامعات البحثية الكبرى تتيح التعليم "الهجين" بحيث يجتمع الناس من قارات مختلفة في أوقات مناسبة.
فلماذا لا يكون لنا خصوصيتنا في ساعات العمل، ثم نوائمها مع الأسواق العالمية عبر أدوات تقنية وإدارية؟

أمثلة أخرى على "خلق الواقع"

1. النظام التعليمي:
بدلًا من استنساخ مناهج الغرب التي تكدس المعلومات، يمكننا أن نخلق نموذجًا تعليميًا يعيد التوازن بين العقل والقلب والمهارة. فيكون اليوم الدراسي قصيرًا لكنه مليئًا بالتجارب العملية والأنشطة القيمية.


2. الإعلام:
الإعلام العربي اليوم يسعى لتقليد النموذج الغربي في الإثارة والدراما المفرغة. لماذا لا نخلق إعلامًا جديدًا يجعل "القيمة" و"المعنى" مركز الجذب، بدلًا من الفضائح والمبالغات؟


3. الاقتصاد:
بدلًا من الاعتماد على النمط الرأسمالي الفرداني، يمكن أن نعيد إحياء اقتصاد "التكافل"، حيث تقوم المشاريع الوقفية والشراكات المجتمعية بدور أساسي. هذا ليس استيرادًا من الماضي، بل خلق واقع جديد يجمع بين قيم الإسلام ومتطلبات العصر.


4. إدارة الوقت الشخصي:
كثير من الشباب اليوم يعيشون ليلهم على الإنترنت وينامون نهارًا. لكن بإمكانهم أن يخلقوا "روتينًا إسلاميًا" يبدأ مع الفجر، ويتضمن ساعة للرياضة، وساعة للعلم، وساعات للعمل المنتج. بهذا يتحولوا من مجرد "ضحايا واقع افتراضي" إلى "خالقين لواقع فعلي".

لماذا لا نخلق الواقع؟

السبب الأكبر هو الخوف من الاختلاف. فنحن نُشبع أنفسنا بخطاب "عالمية النظم"، ونظن أن الخروج عن المألوف العالمي يساوي التخلف.
لكن الحقيقة أن كل نهضة تاريخية قامت على الجرأة في تغيير قواعد اللعبة.

اليابان حين نهضت بعد الحرب العالمية الثانية لم تنسخ الغرب تمامًا، بل أعادت صياغة التعليم والإدارة بما يناسب ثقافتها الجماعية.

ماليزيا حين أرادت التميز لم تتبع حرفيًا تجارب الغرب، بل صاغت نموذج "الإسلام الحضاري" في التنمية.

نحو عقلية الخلق لا عقلية النقل

النهضة التي ننشدها تبدأ من سؤال: ما الواقع الذي نريد أن نخلقه؟
لا من سؤال: كيف نتكيف مع الواقع الذي ورثناه؟
وحين نملك الشجاعة لطرح هذا السؤال، سننتقل من مرحلة النقد والتشخيص، إلى مرحلة البناء والإبداع.

خاتمة

لقد آن الأوان أن نخرج من أسر "دراسة الواقع" إلى أفق "خلق الواقع".
نحن أمة تملك توقيتًا خاصًا، وعقيدة مميزة، وموارد بشرية وروحية هائلة. إذا استطعنا أن نعيد صياغة حياتنا اليومية – من ساعات العمل إلى التعليم والإعلام – سنثبت للعالم أن النهضة لا تعني الاستيراد الأعمى، بل الخلق الأصيل.
فالخيار أمامنا واضح: إما أن نعيش أسرى واقع مستورد لا يناسبنا، أو أن نصنع واقعًا جديدًا يليق بنا كأمة رسالة.



د.سامر الجنيدي_القدس

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.