حمدا للذي خلق الإنسان، وأسبغ عليه النعماء والإحسان، وأخرجه من ظلمات العدم إلى نور الوجود، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وهبه العقل والإرادة والاختيار، وميّزه عن سائر الحيوان، فجعله خليفةً في الأرض، وناط به عمارتها وإقامة الحق فيها، وابتلاه بالخير والشر فتنةً وابتلاءً، ليبلو أيُّه أحسن عملاً، وجعل لنا هداية تنير لنا السبيل، وتثقل الميزان يوم لا ينفع مال ولا بنون،.
فإن المتأمل في هذا الكون المبسوط، والمخلوقات المنتظمة بنظامٍ محكم مضبوط، يجد دلائل باهرة، وبراهين ظاهرة، على أنّ لكل شيءٍ في هذا الوجود هادياً يهديه، وسبيلاً يقوده، ومنهاجاً يسلك به سبيل رشده. الشمس تجري لمستقر لها، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، والنجوم مسخرات بأمر الله، والسحاب يجري بأمره، والرياح يرسلها بشراً بين يدي رحمته، والبحار تموج بأمواجها، والأنهار تجري إلى قرارها، والجبال أوتاد، والأرض فراش مهاد، والنبات ينبت بإذن ربه، والثمر يخرج بألوانه وأشكاله، والحيوان يهتدي إلى غذائه ومرعاه، والطير يسعى إلى أوكاره وأعشاشه، والنحل يبني بيوته سداسيات في غاية الدقة والإحكام، كما قال سبحانه: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾.
فإذا كان هذا حال الحيوان الأعجم، والجماد الأصم، والطيور في الهواء، والأسماك في الماء، قد هداها الله إلى مصالحها، وسخّرها لما خلقت له، أفلا يكون الإنسان – وهو أشرف المخلوقات وأكرمها – أحوج إلى الهداية وأمسّ حاجةً إلى من يقوده ويرشده، ويعلمه ويؤدبه؟ بلى والله، فإنه لو تُرك سدى، لأهلك الحرث والنسل، وأفسد في الأرض فساداً عظيماً. فهو يحتاج إلى قانون يهديه، ونظام يسوسه، ومنهج يرشده، ليعرف به مبدؤه ومعاده، وصالحه وفاسده.
وهنا يثور السؤال: من يضع له هذا القانون؟ أهو الإنسان العاجز المحدود، الذي يجهل ماضيه ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، أم هو الخالق البصير، الذي خلق فسوى، وقدر فهدى؟ والجواب: لا ريب أن الخالق أولى بذلك، فإنه هو العليم بخلقه، الخبير بما يصلحهم وما يفسدهم، كما قال سبحانه: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.
وكما أن المصنع إذا صنع آلةً دقيقةً، أرسل معها كتاباً يوضح طريقة استعمالها، وبعث من المهندسين من يشرح للناس كيف يستخدمونها؛ فكذلك رب العالمين أنزل الكتب هدى للناس، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، يقيمون الحجة ويبينون المحجة، ويجسدون الدين واقعاً ملموساً في حياتهم، ليكونوا قدوة وأسوة. فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد غوى وأضل سبيلاً.
فالنبوة إذن ليست ترفاً ولا كمالاً ثانوياً، بل هي ضرورة حياة، وحاجة إنسانية، أعظم من حاجة الجسد إلى الغذاء، ومن حاجة المريض إلى الدواء، ومن حاجة الجيش إلى السلاح. فهي حياة الأرواح، وغذاء العقول، ونور القلوب، وزاد السالكين إلى الله.
غير أنه يبقى السؤال: من هو الرسول الذي يصلح أن يكون قدوة للعالمين، وإماماً للمتقين، وأسوة للناس أجمعين؟ لا بد أن تتوافر فيه شروط أربعة: أولها أن تكون سيرته محفوظةً موثوقةً لم تعبث بها الأيدي ولم تشبها الخرافات، وثانيها أن تكون رسالته عامةً خالدة لا تختص بزمن ولا قوم دون آخرين، وثالثها أن تكون هدايته شاملةً لكل نواحي الحياة، ورابعها أن يكون بشراً من البشر، لا ملكاً ولا إلهاً، ليصح الاقتداء به. وهذه الشروط الأربعة لم تجتمع إلا في محمد صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين وإمام المرسلين.
أما سيرته فقد حفظت بأدق الروايات وأصح الأسانيد، وجمع العلماء أقواله وأفعاله وسيرته سطراً سطراً، وميزوا الصحيح من السقيم، ووضعوا لذلك علماً خاصاً هو علم الجرح والتعديل، لم يحظَ به نبي قبله. وأما كتابه فقد تكفل الله بحفظه، فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، فبقي غضّاً طرياً كما أنزل، لم تمتد إليه يد التحريف.
وأما عموم رسالته، فقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. فجاءت رسالته للعرب والعجم، للأبيض والأسود، للحر والعبد. وتربى في مدرسته بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن سلام الإسرائيلي، فصاروا جميعاً إخوة في الله، وجنوداً للإسلام، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
وأما شمول هدايته، فقد كان إماماً في كل مجال: كان عابداً زاهداً، وسياسياً حكيماً، وقائداً شجاعاً، وزوجاً رحيماً، وأباً عطوفاً، وجاراً كريماً، وقاضياً عادلاً، وصاحباً وفياً. فما من شأن من شؤون الحياة إلا وقد ترك فيه أسوةً حسنة، وسيرةً عطرة، ومنهجاً قويماً.
وأما كونه بشراً، فذلك عين الحكمة، لأنه لو كان ملكاً لما استطاع الناس أن يقتدوا به، ولو كان إلهاً لكان فوق الطاقة البشرية، ولكنه بشرٌ مثلنا، يجوع فيصوم، ويأكل فيشبع، يفرح ويحزن، يمرض ويصح، ينتصر ويجاهد، ويقول: ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾، فكان أسوةً للبشرية جمعاء، ونموذجاً خالداً للناس كافة.
فهذه هي حياة محمد صلى الله عليه وسلم: سيرة محفوظة، ورسالة عامة، وهداية شاملة، وقدوة بشرية، هي النور المضيء إلى يوم القيامة. فمن طلب الهدى في غيره أضل وأعشى، ومن التمس النور عند سواه خسر وخاب، ومن تبعه اهتدى وسعد وفاز، كما قال سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
✍🏻أبو خالد بن ناظر الدين
خريج دار العلوم ديوبند الهند