استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

سيمفونية الناهض: كيف يبني القرآن منهجه بالحب والذكر والشكر؟


بعد أن أسس القرآن هوية "الأمة الشاهدة"، ينتقل مباشرة في هذا المقطع ليضع لها "منهج عمل" متكامل، لا يفصل بين التكاليف الشاقة في عالم الواقع وبين الإمدادات الروحية من عالم الغيب. إن هذا المقطع هو بمثابة "سيمفونية" متناغمة تعزف على مقامات الحب والذكر والشكر، لتبني في نفس الناهض القوة اللازمة لخوض "سباق الخيرات" وتحمل "ابتلاءات الطريق"، وتحول إسلام الوجه لله من فكرة نظرية إلى "نمط تفكر وحياة".

الآية العمود: "الحب المتبادل" كمحرك للسيمفونية

في قلب هذه السيمفونية، تقع آية هي بمثابة "العمود الفقري" والمحرك المركزي لكل شيء: ﴿فَاذْكُرُونِےٓ أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِے وَلَا تَكْفُرُونِۖ﴾ (البقرة :151)
. فهذه الآية ليست مجرد أمر، بل هي دعوة لعلاقة وجودية عميقة. وكما يكشف الإمام القشيري، هي في حقيقتها دعوة للحب المتبادل: "أحبوني أحببكم". فالحب هو "المقام" الذي تبدأ منه كل الأنغام الصحيحة؛ لأنه الدافع الحقيقي الذي يجعل كل التكاليف الشاقة، كالسباق والصبر، مسارعة لإرضاء المحبوب، لا مجرد أداء لواجب ثقيل.

 السباق في الخيرات: ترجمة "الحب" إلى ذكر وشكر

إن الأمر ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ ليس تكليفًا منفصلاً، بل هو "الأداء العملي" لهذه السيمفونية. إنه "السباق" الذي هو "عين الذكر ووجهة الشكر". فهو "عين الذكر" لأن الناهض حين يسابق لنشر العلم أو إقامة العدل، فإنه "يذكر" بفعله أسماء الله "العليم" و"العدل". وهو "وجهة الشكر" لأن الشكر الحقيقي، كما يفصله الإمام أبو زهرة، هو "أن تكون نعمه لما خلقت له من طاعة"، بتوجيه نعم القوة والعلم لخدمة الخلق. والله تعالى لا يأمر بهذا السباق إلا بعد أن يؤهل المتسابقين بالرسالة: ﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاٗ مِّنكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمُۥٓ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ اُ۬لْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾.

المحور الثالث: الابتلاء: "المنطق الحتمي" للسباق و"ميدان" صدق المحبين

إن "السباق" في طريق الخير له "منطق حتمي"، فلا سباق بدون ابتلاء. فالناهض الذي يسابق الخير "يقاوم جاذبية الخلود إلى الأرض"، فلا بد أن يواجه ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم﴾. والنجاح في هذا الابتلاء المادي لا يكون إلا بالجمع بين القوة الباطنة والاستمداد العلوي: الصبر كمحرك داخلي، والصلاة كأداة اتصال. وفي ذروة المعركة، يأتي تفعيل الوعي الإيماني في لحظة واحدة: ﴿قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾. هذه المقولة ليست تعزية، بل هي "إعلان وعي" يضع المصيبة المادية في إطارها الغيبي الصحيح، فيحولها من خسارة إلى منحة.

المحور الرابع: الذكر كـ"وعي": تفعيل "الذات الشاهدة" في السيمفونية

إن "الذكر" هو "اللحن" الذي يربط كل أجزاء السيمفونية، وهو ليس باللسان فقط، بل كما يوضح الإمام الجصاص، هو "بالعمل بالجوارح، وباعتقاد القلب، وبالفكر في دلائله". إنه حالة "وعي" شاملة تستخدم "الأداة" البيولوجية التي وهبها الله للإنسان، وهي "الذات الشاهدة" القادرة على مراقبة الأفكار والأفعال. فالذكر هو "البرنامج" الإلهي الذي يرقي هذه الأداة، فيجعل وعينا بذواتنا "وعيًا ممتلئًا وموجهًا" نحو الله، وقادرًا على الثبات في وجه الابتلاء.

الخاتمة: من سماع السيمفونية إلى عزفها

إن منهج القرآن ليس مجموعة أوامر متفرقة، بل هو "سيمفونية" متناغمة من الحب والذكر والشكر. وهو يدعو الناهض ألا يكون مجرد مستمع لهذه السيمفونية، بل أن يكون "عازفًا" ماهرًا فيها، يحول حياته إلى لحن متناغم يجمع بين السعي في عالم الشهادة والاتصال بعالم الغيب، لينال في النهاية الجائزة العظمى التي هي تجسيد لحب الله وذكره لعبده: ﴿أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾.


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.