استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

كيف يصنع القرآن "الأمة الوسط" من رحم الابتلاء؟


لا يوجد في القرآن حدث محوري كحدث تحويل القبلة يكشف عن منهج الله في بناء "الأمة الشاهدة". فهو ليس مجرد تغيير في اتجاه الصلاة، بل هو "ورشة بناء" متكاملة تُصهر فيها ثنائيات الغيب والشهادة، والأمر الإلهي والتحدي الواقعي، والوعي الفردي والمشروع الحضاري. هذا المقال، مستلهمًا ضرورة البحث عن "الميزان القسط" الذي يوازن بين عالم القيم وعالم الواقع، سيحاول أن يغوص في أعماق هذا الحدث، ليكتشف كيف يصنع القرآن من رحم هذا الابتلاء "نمط تفكر وحياة" يؤهل أمة لتكون "وسطًا" و"شاهدة" على العالمين.

 العمود الفقري للحدث : "القدوة الشاهدة" كشرط لوجود "الأمة الشاهدة"

إن المشهد المحوري والعمود الفقري الذي يرتكز عليه هذا الحدث هو قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ...﴾. فهذه الآية تكشف عن "سر القيادة"، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن منفذًا سلبيًا، بل كان "شاهدًا معياريًا" مؤهلًا ومستعدًا. وهنا يتجلى "الميزان القسط" في آلية الوحي نفسها، فهي كما وصفتها مدرسة المنار: "الوحي إمداد، في موطن استعداد". فتطلع النبي بـ"ذاته الشاهدة المتجردة" كان هو "الاستعداد" في عالم الشهادة، الذي استجاب له "الإمداد" الإلهي من عالم الغيب. ومن كمال أدبه، كما يقول المحققون، أنه "انتظر ولم يسأل". وهذا التجرد الكامل، المحكوم بالعصمة والأدب، هو ما جعله "الشاهد المعيار" الذي لا يضاهى، والذي تُقاس عليه كل شهادة أخرى.

 الابتلاء كآلية فرز: بناء "الذات الشاهدة الحرة"

لقد كان تحويل القبلة ابتلاءً مصممًا لبناء وتأهيل "الذات الشاهدة" لدى أفراد الأمة، ليختبر قدرتهم على "التجرد من آصار الواقع". وهذه الآصار مزدوجة: أولها الأصر الداخلي المتمثل في التحرر من "المألوف" والعادة (قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا).
 وثانيها الأصر الخارجي، وهو الأخطر، المتمثل في التحرر من ضغط "أقوال السفهاء"، لأنه يشرعن المألوف ويجعل الخروج عليه خيانة. 
يقرر علماء وفلاسفة أن الإنسان قد وُهب "وعيًا ذاتيًا" يجعله "شاهدًا" على أفكاره وعاداته. هذا الوعي هو "شرط الإمكان" الذي يجعل الطاعة. 
فالابتلاء هنا يرتقي بهذه "الأداة" البيولوجية ليجعلها "أداة طاعة" واعية، تثبت أنها حرة وقادرة على اتخاذ قرار واعٍ بالتجرد من القيود والامتثال للأمر الأعلى.

"الوسطية" كـ "قدرة واعية" : ثمرة النجاح في الابتلاء

إن هذا الابتلاء يعيد تعريف "الوسطية" بأنها ليست مجرد موقع جغرافي، بل هي "قدرة واعية على التجرد" من أقطاب الواقع المتجاذبة والتحرك بحرية وفق أمر الله.
 فالأمة التي نجحت في أن تكون "شاهدة" على ذاتها، وحررت نفسها من آصارها، هي الوحيدة المؤهلة لتكون "شاهدة" بالعدل على الأمم الأخرى المكبلة بآصارها.
 وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾. فشهادتهم مشروطة بصحة اقتدائهم بالشاهد المعيار صلى الله عليه وسلم.

القبلة كـ"مشروع حضاري": غاية الابتلاء وهدف الأمة

إن هذا الفعل التعبدي له غاية حضارية كبرى، فالقبلة هي آلية بناء "الأمة الواحدة". وكما يوضح سيد قطب، هي تؤسس للوحدة على أساس "العقيدة" (مطلق غيبي) لا على أساس العرق أو الأرض (نسبي مادي). إنها "الوحدة التي تليق ببني الإنسان؛ إذا تجمع الحيوان على المرعى والكلأ". وهذه الوحدة العملية تتحقق بآلية "الجمع" التي أشار إليها البقاعي في قوله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، فهي تربط الأمة المنتشرة في عالم الشهادة بمركزها الواحد في عالم الغيب، محققة "الوحدة في عين التشتت".

الخاتمة: من استدارة الجسد إلى استقامة المشروع

إن تحويل القبلة درس منهجي في كيفية صناعة "الميزان القسط" في حياة الأمة. فهو يعلمنا أن النهضة تبدأ من "ذات شاهدة" حرة ومتجردة، تتبع "قائدًا شاهدًا" معياريًا، فتنجح في ابتلاءات الواقع، لتتأهل لأداء مهمتها الحضارية في أن تكون "أمة وسطًا" شاهدة بالحق على العالمين.


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.