استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

صناعة العقل الراشد: كيف يبني القرآن "منهج الموازنات" في حياة المؤمن؟



في سلسلة من الأسئلة الحياتية المباشرة، من الخمر إلى العلاقة الزوجية، يقدم لنا القرآن في هذا المقطع "ورشة عمل" فريدة في "منهجية اتخاذ القرار". فهو لا يلقي بالأحكام بشكل فوقي، بل يبني "العقل المتفكر" القادر على الموازنة بين المصالح والمفاسد، وبين الدنيا والآخرة. هذا المقال هو محاولة لاستكشاف "المنهج العمود" الذي يسري في كل آيات هذا المقطع، وهو منهج لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، وكيف يؤسس هذا المنهج لـ"نمط حياة" متوازن ينجو من التدين الشكلي والسطحية.
المحور الأول: المنهج العمود: صناعة "القناعة الذاتية" لا "فرض الأحكام"
إن "العمود الفقري" لهذا المقطع (الحزب 4، الثمن 3) ليس آية بعينها، بل هو "المنهج التربوي" المتكرر الذي تختزنه خاتمة آية الخمر والميسر: ﴿...كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اُ۬للَّهُ لَكُمُ اُ۬لَايَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِے اِ۬لدُّنْي۪ا وَالَاخِرَةِۖ...﴾ (217-218)
فالقرآن لا ينكر "منافع" الدنيا في الخمر والميسر، بل كما يقول العلامة فضل الله: "يبدأ بإثارة الجوانب السلبية بإزاء الجوانب الإيجابية ليفكروا فيها بهدوء"، ثم يضع قاعدة الترجيح: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا. والغاية من هذا الأسلوب، كما يوضح رشيد رضا، هي أن الله "لم يرد أن يعنتكم ويكلفكم ما لا تعقلون له فائدة... بل... هداكم إلى استعمال عقولكم فيها، لترتقوا بهدايته عقولا وأرواحا". فالهدف هو بناء الطاعة القائمة على القناعة والبصيرة.
المحور الثاني: "التفكر" كـ "يد النفس": من السؤال إلى التذكر
إن "التفكر" الذي يدعو إليه القرآن ليس مجرد تأمل، بل هو "آلية عمل" متكاملة للعقل المؤمن، تبدأ بـ "السؤال" (الذي يثيره الواقع)، وتنتقل إلى "التفكر" (وهو جهد الموازنة والتحليل)، وتستمد نورها من "التذكر" (استحضار المبادئ والقيم العليا من الوحي). إنه كما يعرفه الإمام الحرالي تعريفًا بديعًا: "يد النفس التي تنال بها المعلومات كما تنال بيد الجسم المحسوسات". فالقرآن ببيانه للآيات يدعونا لنمد "أيدي نفوسنا" ونتناول الحقائق بأنفسنا.
المحور الثالث: تطبيقات "منهج الموازنة": من الزواج إلى القتال
إن بقية قضايا المقطع هي تطبيقات عملية لهذا "المنهج الموازن". ففي الزواج، تتم الموازنة بين "إعجاب" الشهادة (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) و"خير" الغيب (وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ). وفي الإنفاق، تتم الموازنة بين "حاجة النفس" و"حق المجتمع"، والحل هو قُلِ الْعَفْوَ. وفي اليتامى، تتم الموازنة بين "خوف المخالطة" و"خير الإصلاح". وفي القتال في الشهر الحرام، تتم الموازنة بين "حرمة الزمان" و"مفسدة الفتنة" التي هي أَكْبَرُ. كلها دروس تدرب العقل على وضع الأمور في نصابها الصحيح.
المحور الرابع: من "الفقه الائتماري" إلى "الفقه الائتماني"
إن هذا المنهج القرآني في "صناعة القناعة" هو الذي ينقلنا من "الفقه الائتماري" إلى "الفقه الائتماني"، كما يصطلح الفيلسوف طه عبد الرحمن. فالتدين الشكلي (الائتماري) يتعامل مع الدين كـ "أوامر" جافة يجب تنفيذها، فيجرد الشعائر من بعدها القيمي. أما التدين الحي (الائتماني)، فيتعامل مع الدين كـ "أمانة" لها ظاهر وباطن، ويسعى لفهم حكمة التشريع ومقاصده، فينتج "عمرانًا قائمًا على القيم".
الخاتمة: التفكر في الدنيا والآخرة كنمط حياة
إن "العمود الفقري" لهذا المقطع هو "منهج" وليس مجرد "حكم". إنه دعوة للناهض لتبني "نمط التفكر الموازن" في كل شؤون حياته، فلا يتخذ قرارًا إلا بعد وضعه في "ميزان الدنيا والآخرة"، وهذا هو جوهر "الرشد" الذي هو غاية المنهج القرآني كله.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.