في سياق التعبئة للنهوض ومواجهة التحديات، يقدم لنا القرآن في هذا المقطع "ورشة عمل" متكاملة لـ "تصحيح المفاهيم". فهو يكشف عن أن العوائق الحقيقية أمام البذل والتضحية ليست خارجية فحسب، بل هي "مفاهيم معيقة" داخلية تتعلق بالحياة والمال والقيادة. هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف أن آية "القرض الحسن" هي "الآية العمود" التي تقدم "اقتصادًا إيمانيًا" جديدًا، وتؤسس لـ"رؤية توحيدية" تحرر "الناهض" من أغلاله، وتجعله أهلاً للقيام بواجبات الاستخلاف والعمران.
الآية العمود : "اقتصاد القرض الحسن" كمنهج لتحرير الطاقات
إن "الآية العمود" في هذا المقطع (الحزب 4، الثمن 7) هي ﴿مَّن ذَا اَ۬لذِے يُقْرِضُ اُ۬للَّهَ قَرْضاً حَسَناٗ فَيُضَٰعِفُهُۥ لَهُۥٓ أَضْعَافاٗ كَثِيرَةٗۖ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُۖ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَۖ﴾ (243)
فهي ليست مجرد دعوة للصدقة، بل هي "تأسيس لعقلية اقتصادية إيمانية" جديدة، تحول "الإنفاق" من خسارة إلى استثمار. وقلب هذا الاقتصاد هو الإيمان بأن الله هو "القابض الباسط" بإطلاق. فهذه الحقيقة، كما يلخصها سيد قطب، هي العلاج الشامل الذي به "لا فزع من الموت، ولا خوف من الفقر، ولا محيد عن الرجعة إلى الله".
"القابض الباسط": المفتاح التوحيدي لتصحيح المفاهيم
إن الإيمان بأن الله هو "القابض الباسط" لكل شيء هو "المطرقة" التي تهدم كل "المفاهيم المعيقة". ففي الحياة والموت، هو الذي "يقبض" الأرواح و"يبسطها"، فالفرار حَذَرَ الْمَوْتِ لا يغير من الأجل شيئًا. وفي المال، هو الذي "يقبض" الرزق و"يبسطه"، فالإنفاق في سبيله لا يفقر. وفي الملك، هو الذي "يقبض" الملك ممن يشاء و"يبسطه" لمن يشاء. وكما يشرح الإمام البقاعي، فإن هذه الجملة تأتي "جملة حالية من ضمير يضاعف مرهبة مرغبة"، فهي ترهب من يريد الإمساك، وترغب من يريد البذل.
"معايير الاصطفاء الإلهي" في مقابل "المقاييس المادية"
تعتبر قصة الاعتراض على ملك طالوت "حالة دراسية" للصراع بين "الميزان البشري المادي" و"الميزان الإلهي الحكيم". فبنو إسرائيل اعترضوا بمعياري "النسب" و"المال" (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ). فجاء القرآن ليقدم "معايير الاصطفاء الإلهي" الحقيقية، وهي ليست امتيازات، بل "مؤهلات كفاءة": بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ. وكما يوضح سيد قطب، فهذا هو الرد على "غبش في التصور" لديهم، حيث كشف لهم نبيهم عن أحقيته الذاتية، وعن حكمة الله في اختياره.
"واسع عليم": الصفات المؤسسة لفعل "القبض والبسط"
إن فعل "القبض والبسط" ليس فعلاً عشوائيًا، بل هو صادر عن صفتي الكمال اللتين خُتمت بهما قصة طالوت: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. فالله "يبسط" لأنه "واسع" الفضل، وهو "يقبض ويبسط" لأنه "عليم" بمن يستحق وما يصلح. وهذا اليقين بأن فعل الله صادر عن سعة وعلم هو الذي يمنح المؤمن الطمأنينة. والقرآن لا يقدم هذه المفاهيم بشكل جاف، بل يرسمها، كما يصف سيد قطب، في مشاهد حية تهز الوجدان وتطبع اليقين في القلب، فيقول: "ومن مشهد الألوف المؤلفة، الحذرة من الموت... إلى مشهد الموت المطبق في لحظة؛ ومن خلال كلمة: {موتوا}... ليلقي ذلك في الحس عبث المحاولة، وضلالة المنهج".
الخاتمة: من المفاهيم المعيقة إلى العمران الراشد
إن التغيير في السلوك يبدأ من "تصحيح المفاهيم". و"اقتصاد القرض الحسن"، القائم على الإيمان بـ "القابض الباسط الواسع العليم"، هو المنهج الذي يكسر "الأغلال" النفسية (الجبن، البخل، الكبر)، ويحرر "طاقات الناهض"، ليكون أهلاً للقيام بـ "واجبات الاستخلاف والعمران".
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.